Friday, October 17, 2014

(شرى) و(اشترى) فروق بديعة باتفاق واختلاف،بالمعنى وضده




(شرى) و(اشترى) فروق بديعة باتفاق واختلاف،بالمعنى وضده:
جمال القرآن الكريم يتبدى في ألفاظه ومعانيه، واختلاف الأساليب وتنوعها، مما يُضفِي على القرآن زينة خلابة ونورا يبهر العقول والأفكار.

والعلم والمعرفة تتحدان في القرآن الكريم وتتبدى آثارهما في آفاق اللسور القرآنية ومعالم آياته وظواهر ألفاظه ومعانيها.
والمنصف من يقرأ القرآن بتدبر وتأمل محايدا وخاليا عن التعصب والتبعية، فمن يفعل ذلك يلق أجوبة لكثير من الأسئلة، ويشفي غليله باطلاعه على الفكر القرآني وأسلوبه البليغ الهادف،ويروي ظمأه وعطشه إلى العلم والمعرفة والثقافة والفكر بقراءة القرآن وتدبره وتلاوته ومعرفة معانيه وأهدافه وإرشاده.
وهذا الفيلسوف الفرنسي الملحد جوزيف آرنست يعترف بذلك إذ يقول:
تضم مكتبتي آلاف الكتب السياسية والاجتماعية والأدبية وغيرها ، والتي لم أقرأها أكثر من مرة واحدة ، وما أكثر الكتب التي للزينة فقط ، ولكن هناك كتاب واحد تؤنسني قراءته دائماً هو كتاب المسلمين القرآن . فكلما أحسست بالإجهاد وأردت أن تنفتح لي أبواب المعاني والكمالات ، طالعت القرآن حيث أني لا أحس بالتعب أو الملل بمطالعته بكثرة .
ومن تلك الألفاظ والأساليب مجيء كلمتي (شرى واشترى):
شرى واشترى: كلمتان متقاربتان أصلهما واحد، لكن بينهما تضاد واختلاف في المعنى وفي الأسلوب القرآني.
شرى بمعنى باع:
شرى في القرآن الكريم جاءت بمعنى باع أي بذل السلعة ليأخذ مقابلها الثمن.
وقد وردت (شرى) أربع مرات في القرآن الكريم وكلها بمعنى باع
(وشروه بثمن بخس درهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) أي :باعوه مقابل الثمن.
(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) أي: يبيع نفسه لله لنيل مرضاته.
(فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) أي: لا يقاتل في سبيل الله حقا إلا الصادقون الذين يبيعون حياتهم الدنيا لله، لينالوا النعيم الخالد في الآخرة.
و « يَشْرون » يحتمل وجهين ،
أحدُهما : أن يكون بمعنى يشترون .
فإنْ قيل : قد قررت أن الباء إنما تدخُل على المتروك ، والظاهرُ هنا أنها دَخَلَتْ على المأخوذِ.
فالجوابُ : أنَّ المرادَ بالذين يشترون المنافقون المبطِّئُون عن الجهاد أمَروا بأَنْ يُغَيِّروا ما بهم من النفاق ، ويُخْلِصوا الإِيمانَ باللَّهِ ورسولِه ، ويجاهدوا في سبيلِ الله ، فلم تَدْخُلْ إلا على المتروك؛ لأنَّ المنافقين تاركون للآخرة آخذون للدنيا .
والثاني : أنَّ « يشرون » بمعنى يَبيعون ، ويكون المرادَ بالذين يَشْرُون : المؤمنون المتخلفون عن الجهاد المُؤْثِرون الآجلةَ على العاجلة ، ونظيرُ هذه الآية في كون « شرى » تحتمل الاشتراء والبيع باعتبارين.
ومنه قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ):
والله سبحانه وتعالى حينما يستعمل كلمة « يشري » يجب أن نلاحظ أنها من الأفعال التي تستخدم في الشيء ومقابله ، فـ « شرى » يعني أيضا « باع » .
إذن ، كلمة « شرى » لها معنيان ، واقرأ إن شئت في سورة يوسف قوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ }.
أي باعوه بثمن رخيص .
وتأتي أيضا بمعنى اشترى ، فالشاعر العربي القديم عنترة ابن شداد يقول :
فخاض غمارها وشرى وباعا ... .
إذن « شرى » لغة ، تُستعمل في معنيين : إما أن تكون بمعنى « باع » ، وإما أن تكون بمعنى « اشترى » ، والسياق والقرينة هما اللذان يحددان المعنى المقصود منهم.
فقول عنترة : « شرى وباع » نفهم أن المقصود من « شري » هنا هو « اشترى » ، لأنها مقابل « باع » .
 وقوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } يوضحه سياق الآية بأنهم باعوه .
وهذا من عظمة اللغة العربية ، إنها لغة تريد أناساً يستقبلون اللفظ بعقل ، ويجعلون السياق يتحكم في فهمهم للمعاني .
 { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ } نفهم « يشري » هنا بمعنى يبيع نفسه ، والذي يبيع نفسه هو الذي يفقدها بمقابل . والإنسان عندما يفقد نفسه فهو يضحي بها ، وعندما تكون التضحية ابتغاء مرضاة الله فهي الشهادة في سبيله عز وجل ، كأنه باع نفسه وأخذ مقابلها مرضاة الله . ومثل ذلك قوله تعالى : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ }.
إن الحق يعطيهم الجنة مقابل أنفسهم وأموالهم .
إذن فقوله : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله } يعني باع نفسه وأخذ الجنة مقابلاً لها ، هذا إذا كان معنى « يشري » هو باع .
وماذا يكون المعنى إذا كانت بمعنى اشترى؟ هنا نفهم أنه اشترى نفسه بمعنى أنه ضحى بكل شيء في سبيل أن تسلم نفسه الإيمانية .
ومن العجب أن هذه الآية قيل في سبب نزولها ما يؤكد أنها تحتمل المعنيين ، معنى « باع » ومعنى « اشترى » :
فها هو ذا أبو يحيى الذي هو صهيب بن سنان الرومي كان في مكة ، وقد كبر سنه ، وأسلم وأراد أن يهاجر ، فقال له الكفار : لقد جئت مكة فقيراً وآويناك إلى جوارنا وأنت الآن ذو مال كثير ، وتريد أن تهاجر بمالك .
فقال لهم : أإذا خليت بينكم وبين مالي أأنتم تاركوني؟
فقالوا : نعم .
قال : تضمنون لي راحلة ونفقة إلى أن أذهب إلى المدينة؟
قالوا : لك هذا .
إنه قد شرى نفسه بهذا السلوك واستبقاها إيمانياً بثروته ، فلما ذهب إلى المدينة لقيه أبو بكر وعمر فقالا له : ربح البيع يا أبا يحيى .
قال : وأربح الله كل تجارتكم .
وقال له سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن جبريل أخبره بقصتك ، ويروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له : ربح البيع أبا يحيى .
إذن معنى الآية وفق هذه القصة : أنه اشترى نفسه بماله ، وسياق الآية يتفق مع المعنى نفسه . وهذه من فوائد الأداء القرآني حيث اللفظ الواحد يخدم معنيين متقابلين .
ولكن إذا كان المعنى أنه باعها فلذلك قصة أخرى ، ففي غزوة بدر ، وهي أول غزوة في الإسلام ، وكان صناديد قريش قد جمعوا أنفسهم لمحاربة المسلمين في هذه الغزوة ، وتمكن المسلمون من قتل بعض هؤلاء الصناديد ، وأسروا منهم كثيرين أيضا ، وكان مِمَّنْ قتلوا في هذه الغزوة واحد من صناديد قريش هو أبو عقبة الحارث بن عامر والذي قتله هو صحابي اسمه خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي ، وهو من قبيل الأوس بالمدينة ، وبعد ذلك مكر بعض الكفار فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله ، إننا قد أسلمنا ، ونريد أن ترسل إلينا قوما ليعلمونا الإسلام . فأرسل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه ليعلموهم القرآن ، فغدر الكافرون بهؤلاء العشرة فقتلوهم إلا خبيب بن عدي ، استطاع أن يفر بحياته ومعه صحابي آخر اسمه زيد بن الدَّثِنّة ، لكن خبيباً وقع في الأسر وعرف الذين أسروه أنه هو الذي قتل أبا عقبة الحارث في غزوة بدر ، فباعوه لابن أبي عقبة ليقتله مقابل أبيه ، فلم يشأ أن يقتله وإنما صلبه حياً ، فلما تركه مصلوباً على الخشبة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة : من ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟
قال الزبير : أنا يا رسول الله .
وقال المقداد : وأنا معه يا رسول الله .
فذهبا إلى مكة فوجدا خبيباً على الخشبة وقد مات وحوله أربعون من قريش يحرسونه ، فانتهزا منهم غفلتهم وذهبا إلى الخشبة وانتزعا خبيباً وأخذاه ، فلما أفاق القوم لم يجدوا خبيباً فقاموا يتتبعون الأثر ليلحقوا بمن خطفوه ، فرآهم الزبير ، فألقى خبيباً على الأرض ، ثم نظر إليه فإذا بالأرض تبتلعه فسمى بليع الأرض . وبعد ذلك التفت إليهم ونزع عمامته التي كان يتخفى وراءها وقال : أنا الزبير بن العوام ، أمي صفية بنت عبد المطلب ، وصاحبي المقداد ، فإن شئتم فاضلتكم يعني يفاخر كل منا بنفسه وإن شئتم نازلتكم يعني قاتلتكم وإن شئتم فانصرفوا ، فقالوا : ننصرف ، وانصرفوا ، فلما ذهب الزبير والمقداد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرهم بالجنة التي صار إليها خبيب .
إذن فقد باع خبيب نفسه بالجنة .
وعلى ذلك فإن ذهبت بسبب نزول الآية إلى أبي يحيى صهيب بن سنان الرومي تكون « شرى » بمعنى اشترى ، وإن ذهبت بسبب النزول إلى خبيب فتكون بمعنى : باع .
نلاحظ أن (الباء)- باء البدل أو باء المعاوضة- دخلت على المادة التي أخذوها من المعاوضة،وليست التي تركوها.
 أما اشترى فهي بمعنى أخذ:
فعل(اشترى) جاء بمعنى أخذ المادة المشتراة، ودفع الثمن الذي معه من أجلها.
وقد وردت اشتقاقات هذه المادة إحدى وعشرين مرة، وكلها وردت بهذا المعنى:
*منها:  ( وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه): أي الذي اشترى يوسف من الذين شروه (باعوه).
*ومنها ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يُقَاتِلون في سبيل الله فيَقْتُلُون ويُقْتَلُون): إن الله الكريم هو الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم وأعطاهم الثمن وهو الجنة، وهذا تقريب لمعنى قبوله سبحانه وتعالى أعمالهم الصالحة ومَنْحِهِم مقابلَها الثوابَ والنعيم.
*ومنها( إن الذين اشتروا الكفرَ بالإيمان لن يضروا الله شيئا )
*ومنها(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ):
عندما رفض اليهود الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وطردهم الله من رحمته . . بيّن لنا أنهم : { بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } . . وكلمة إشترى سبق الحديث عنها وقلنا إننا عادة ندفع الثمن ونأخذ السلعة التي نريدها . . ولكن الكافرين قلبوا هذا رأسا على عقب وجعلوا الثمن سلعة . . على أننا لابد أن نتحدث أولا عن الفرق بين شرى واشترى . . شَرَى بمعنى باع . . واقرأ قوله عز وجل : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } [ يوسف : 20 ]
ومعنى الآية الكريمة أنهم باعوه بثمن قليل . . واشترى يعني ابتاع . . ولكن اشترى قد تأتي بمعنى شرى . . لأنك في بعض الأحيان تكون محتاجا إلى سلعة ومعك مال . . وتذهب وتشتري السلعة بمالك وهذا هو الوضع السليم . . ولكن لنفرض أنك احتجت لسلعة ضرورية كالدواء مثلا . . وليس عندك المال ولكن عندك سلعة أخرى كأن يكون عندك ساعة أو قلم فاخر . . فتذهب إلى الصيدلية وتعطي الرجل سلعة مقابل سلعة . . أصبح الثمن في هذه الحالة مشترى . . إذن فمرة يكون البيع مشتري ومرة يكون مبيعاً ..
والحق تبارك وتعالى يقول : { بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } . . وكأنما يعيرهم بأنهم يدعون الذكاء والفطنة . . ويؤمنون بالمادية وأساسها البيع والشراء . . لو كانوا حقيقة يتقنون هذا لعرفوا أنهم قد أتموا صفقة خاسرة . . الصفقة الرابحة كانت أن يشتروا أنفسهم مقابل التصديق بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم . . ولكنهم باعوا أنفسهم واشتروا الكفر فخسروا الصفقة لأنهم أخذوا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة . .
والله سبحانه وتعالى يجعل بعض العذاب في الدنيا ليستقيم ميزان الأمور حتى عند من لم يؤمن بالآخرة . . فعندما يرى ذلك من لا يؤمن بالآخرة عذابا دنيويا يقع على ظالم . . يخاف من الظلم ويبتعد عنه حتى لا يصيبه عذاب الدنيا ويعرف أن في الدنيا مقاييس في الثواب والعقاب . . وحتى لا ينتشر في الأرض فساد من لا يؤمن بالله ولا بالآخرة . . وضع الحق تبارك وتعالى قصاصا في الدنيا . . واقرأ قوله جل جلاله : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 179 ]
مما سبق نلحظ باء المعاوضة بين شرى واشترى:
إذا كانت باء المعاوضة في فعل(شرى) فإنها تدخل على المادة المشتراة المأخوذة.
أما لو كانت باء المعاوضة في فعل(اشترى) فإنها تدخل على المادة المباعة.
قال الله سمَتْ حكمتٌه عن تجارة المنافقين الخاسرة: ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتُهم)
وقال عن تجارة اليهود: ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار)
إذن:
(شرى) في القرآن بمعنى (باع) وتدخل (باء المعاوضة) على المادة المشتراة.
و(اشترى) في القرآن بمعنى (اشترى) وتدخل (باء المعاوضة) على المادة الـمُباعة المدفوعة.
ففي (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ):
قوله تعالى : { وَشَرَوْهُ } :
شرى بمعنى اشترى ، ومنه قول الشاعر :
ولو أنَّ هذا الموتَ يَقْبَلُ فِدْيَةً ... شَرَيْتُ أبا زيدٍ بما مَلَكَتْ يَدي
وبمعنى باع ومنه قولُ الشاعر :
وشَرَيْتُ بُرْداً ليتني ... مِنْ بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَهْ
فإن جَعَلْنا الضمير في « شَرَوْه » عائداً على إخوة يوسف كان « شرى » بمعنى باع ، وإن جَعَلْناه عائداً على السيارة كانت بمعنى اشتروا .
يقول الراغب الأصفهاني في المفردات في غريب القرآن في الصلة بين (شرى) و(اشترى):
"الشراء والبيع يتلازمان، فالمشتري دافعُ الثمن وآخِذ الـمُثْمَن ، والبائع دافعُ الـمُثْمَن وآخذُ الثمن.
أما إذا كانت المبايعة سلعة بسلعة، صحَّ  أن يُتَصَوَّر كل واحد منهما مشتريا وبائعا.
ومن هذا الوجه صار لفظ البيع والشراء  يُستعمل كل واحد واحد مهما في موضع الآخر،وشريتُ بمعنى بعتُ أكثر، وابتعتُ بمعنى اشتريتُ أكثر".
ومادة : « شرى » ومادة « اشترى » كلها تدل على التبادل والتقايض ، فأنت تقول : أنا اشتريت هذا الثوب بدرهم؛ أي أنك أخذت الثوب ودفعت الدرهم.

إن تلاوة القرآن وتدبره لها من الفوائد الشيء الكثير، ومنذ انصرف قادة وعلماء ومفكروا العرب والمسلمين عن القرآن الكريم ولم يهتموا به ولم يدرسوه ويطبقوه تخلفوا وأصبحوا عالة على الأمم وأصبحوا ضعافا جبناء في هامش التاريخ والأحداث.

والله يقول:
قال بشر بن السري : إنما الآية مثل التمرة ، كلما مضغتها استخرجت حلاوتها.
فحُدث بذلك أبو سليمان فقال : صدق إنما يؤتى أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها .
ويقول: المستشرق الألماني د . شومبس ـ
ربما تعجبون من اعتراف رجل أوروبي مثلي بهذه الطريقة :
فقد درست القرآن فوجدت فيه تلك المعاني العالية والأنظمة المحكمة والبلاغة الرائعة التي لم أجد مثلها قط في حياتي ، جملة واحدة منه تغني عن مؤلفات ، هذا ولا شك أكبر معجزة أتى بها محمد عن ربه .
قال الشاعر:
فَاْلْحِفْظُ يُنْجِيْ حَاْفِظًا مِنْ حَــــــرِّهَـاْ ***  يَأْتِيْ شَفِيْعًا مِنْ لَظَىْ اْلْنِّيـــْـــــــــرَاْنِ
وَيُقَاْلُ فَاْقْرَأْ وَاْرْقَ رَتِّلْ إِنِّمــَــــــــــا    ***    لَكَ مَنْزِلٌ فَاْصْعَدْ وَكُنْ بَأَمــــَـــــــاْنِ
كَمْ حَاْفِظٍ لِلْذِكْرِ يَعْلُوْ ذكـــْــــــــــــرُهُ  ***   قَدْ كَرَّمَ اْلْرَّحْمَنُ منْ إِحْســـَـــــــــــاْنِ
فَلَهُ اْلْوَقَاْرُ وَأَن يَؤُمَّ مُقَدَّمــــــًــــــــــا ***  وَهُوَ اْلْمُفَضَّلُ حَاْمِلُ اْلْقـُـــــــــــــرْآنِ
فَهْوَ اْلَّذِيْ مِنْ أَهْلِ رَبِّيْ إِنَّمـــَـــــــــاْ *** قَدْ خَصَّهُ اْلْرَّحْمَنُ بِاْلْتِّبْيــــَــــــــــــاْنِ
فَاْلْحَرْفُ مِنْهُ مُضَاْعَفٌ حَسَنَاْتـــُــــهُ ***  عَشْرًا يُضَاْعَفْ مِنْ لَدُنْ رَحْمـَــــــنْ
فَإِذَاْ قَرَأْتَ تَغَنَّ فِيْهِ مُرَتـــِّـــــــــــــلاً ***   مُتَوَضِّئًا فَاْلْطُّهْرُ فِيْهِ مَعَاْنـــــــــــــيْ
يَاْ رَبِّ صَلِّ عَلَىْ اْلْنَّبِيْ اْلْمُصْطَفَــىْ  ***  وَاْخْتِمْ لَنَاْ فِيْ جَنَّةِ اْلرِّضْــــــــــــوَاْنِ

والله أعلم.
المصادر:
-المفردات في ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني.
- الصحاح في اللغة،الجوهري.
- لطائف قرآنية، صلاح عبد الله الخالدي
-الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي
- تفسير الشعراوي.
- معجم مقاييس اللغة أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا.
- بالقرآن أسلم هؤلاء لعبد العزيز الغزاوي.
- البرهان في علوم القرآن للزركشي.

Saturday, October 11, 2014

الفرق بين (الذَّنوب و الذُّنوب)

الفرق بين (الذَّنوب و الذُّنوب):

جمال القرآن الكريم بجمال معانية وكلماته، وجلال القرآن الكريم بجلالة مراميه وأهدافه، ورونق القرآن الكريم يظهر في أسلوبه الفريد وعباراته الخلابة التي تغزو القلوب فتأسرها وتأخذ بالعقول فتزيدها علما ومعرفة وفهما ، وتلمس الروح فتنعشها وتسمو بها، وتأخذ بالنفس فتهذبها وتطهرها.

ومن كانت قراءته للقرآن بالتأمل والتدبر فإن له منزلة عند الله عليا ومرتبة كبرى شرط أن يعمل بما جاء في القرآن من أوامر ووصايا وأحكام ويبتعد عما نهى عنه من منهيات ومحرمات.
والمسلم الحق مَن يأخذ القرآن رفيقا له وصديقا لأنه الصديق الوفي والرفيق الصادق وقت شدائد الموت وأهوال القبر ويوم القيامة.
 فتعالوا بنا لنستطلع لطيفة قرآنية وهي الفرق بين (الذَّنوب و الذُّنوب)

(الذَّنوب و الذُّنوب):كلمتان متقاربتان، مشتقتان من كلمة: الذَّنَب.
قال الراغب الأصفهاني في كتابه مفردات ألفاظ القرآن:
"ذنب الدابة وغيرها معروف،ويعبر بالذنب عن المتأخر والرَّذِل، يقال: هم أذناب القوم.
 والذَّنُوب:الفرس الطويل الذنب، والدلو التي لها ذَنب.
والذَّنُوب في الأصل: الأخذ بذَنَب الشيء،ويُستعمل في كل فعل يُستوخَم عُقباه،اعتباراً بذَنَب الشيء، وجمع الذَّنْب : ذُنوب".

وأصل الذنوب في لغة العرب الدلو، وعادة العرب أنهم يقتسمون ماء الآبار والقلب بالدلو ، فيأخذ هذا منه ملء دلو ، ويأخذ الآخر كذلك ، ومن هنا أطلقوا اسم الذنوب ، التي هي الدلو على النصيب .
قال الراجز في اقتسامهم الماء بالدلو :
لنا ذَنوب ولكم ذَنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب
ويروى :
إنا إذا شاربنا شريب ... له ذنوب ولنا ذَنوب
فإن أبى كان لنا القليب .

ولو نظرنا في القرآن الكريم فإنا نجد أنه وردت كلمة (ذَنوب) مرتين في آية واحدة، قال الله علت كلمَتُه:( فإن للذين ظلموا ذَنوبَا مثل ذَنُوب أصحابهم فلا يستعجلون)
أي:للذين ظلموا نصيبا من العذاب وحصة من المسؤولية مثل نصيب وحصة أصحابهم الظالمين الآخرين.
إذن: الذَّنوب: هي الدلو طويلة الذَّنَب، والنصيب الذي يوقع صاحبَه في التبعة والمسؤولية وكأن له ذَنَبَاً.
والكلام تمثيل لهيئة تساوي حظ الذين ظلموا من العرب بحُظوظ الذين ظلموا من الأمم السالفة بهيئة الذين يستقون من قليب واحد إذ يتساوون في أنصبائهم من الماء ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس ، وأطلق على الأمم الماضية اسم وصف أصحاب الذين ظلموا باعتبار الهيئة المشبه بها إذ هي هيئة جماعات الوِرد يكونون متصاحبين .
وهذا التمثيل قابل للتوزيع بأنه يشبّه المشركون بجماعة وردت على الماء ، وتُشبه الأمم الماضية بجماعة سبقتهم للماء ، ويُشبه نصيب كل جماعة بالدلو التي يأخذونها من الماء .

أما الذُّنُوب فهي جمع ذَنْب، وقد وردت في القرآن الكريم في حالة الجمع(ذُنوب) ستا وعشرين مرة، كقول الله سمَتْ حكمتُه:(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد).
وهناك صلة بين الكلمتين (ذُنوب) التي هي جمع (ذَنْب) وكلمة (ذَنُوب) التي هي جمع (الذَّنَب)، وكأن الإنسان عندما يعصي ويُخالف يأخذ بذَنَب الأشياء ومؤخَّر الأقوال وتافه الأفعال وساقط الأفكار، فهو يتخلف عن غيره ويتأخر عن الطائع.
وكأن الذَّنُوب :دَلوٌ، تُوضَع فيه ذُنوب المذنبين ليُحاسبوا عليها.

إن تلاوة القرآن مهذِّبةٌ للنفس من جوانب شتى، فهي تُعرَّف الانسان على المطلوب منه وتثير عنده المعاني المرادة من تزكية النفس.
 وتلاوة القرآن تنور القلب وتذكّره فهي تكمّل عمل الصلاة والزكاة والصوم والحج في التحقق بمقام العبودية لله عز وجل.
 وتلاوة القرآن تقتضي إحكاماً لأحكام التجويد والتزاماً يومياً بورد من القرآن.
وإنما يفعل القرآن فعله إذا رافقت تلاوته آداب الباطن في التأمل والخشوع والتدبر.
قال الغزالي رحمه الله:
التدبر: المقصود من القراءة التدبر. ولذلك سن الترتيل فيه، لأن الترتيل في الظاهر يساعد على التدبر بالباطن.
قال علي رضي الله عنه: لا خيرَ في عبادة لا فقه فيها ولا في قراءة لا تدبر فيها. وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد فليردد إلا أن يكون خلف إمام.

بنفسي من استهدى إلى الله وحده***وكان اله القرآن شِرباً ومغسلا
وطابت عليه أرضه فتفتقت*** بكل عبير حين أصبح مخضلا

والله أعلم
المصادر:
-المفردات في ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني.
- الصحاح في اللغة،الجوهري.
- لطائف قرآنية، صلاح عبد الله الخالدي
-إحياء علوم الدين،الغزالي.
-أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين بن محمد بن المختار الجكني الشنقيطي.
- التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

Thursday, October 2, 2014

عناية الإسلام بالمهن والحرف ،علم ومعرفة،رزق وكسب، أخلاق وتربية



عناية الإسلام بالمهن والحرف ،علم ومعرفة،رزق وكسب، أخلاق وتربية:
 الاسلام دين واقعي جاء مراعاة لمصالح العباد، متمشيا مع فطرتهم السليمة، جامعا لما ينفعهم مبعدا ما يضرهم.
ولأن الإسلام دين علم وعمل ودين معرفة وتطبيق، فهو أقرب للنفوس من غيره وأحب للأرواح من سواه، فمَن يعرفه حق المعرفة ويعلمه حق العلم ، فسيؤمن بالله وبرسوله وسيدافع عن الشريعة وعن هذا الدين .
وقد اهتم الإسلام بمناحي الحياة وزواياها المخالفة وأركانها المتعددة، فسن قوانين وأقام أحكاما وشرع شرائع تتعلق بها.
والذين يغمضون أعينهم عن هذه الحقيقة ويتبعون سبيل الغرب واليهود في محاربة الإسلام فإنهم لن يقبلوا الإسلام وسيرفضونه لأنهم أصبحوا دمى في مسرح عرائس الغرب يحركونهم كيفما شاؤوا ويعلمون لهم ما أرادوا.
والمسلم يتسلح بالعلم والمعرفة ليقابل هؤلاء وأولئك ممن يطعنون في الإسلام ويشوهون صورته ويعملون جاهدين في إبعاده عن الحياة وعن المعيشة وعن القانون والدستور.
ومن مناحي الحياة التي اهتم الإسلام بها هي الحرف والمهن المختلفة المتنوعة المتعددة.
  فما أن يتنفس الصباح, ويبزغ الفجر, إلا وترى الناس يخرجون أفواجاً لكسب الأقوات والمعايش, كلٌ يغدو يأمل من فضل الله وعطائه, يغدون خماصاً, ويروحون بطاناً, ما من أحد منهم إلا وله حاجة, فيسد الله الخلة, ويقضي الحاجة, بمقتضى علم وحكمة تحار له عقول أولي الألباب {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
 تأمل هذا الخبز الذي تقتات منه, كم من أناسٍ قد أناط الله رزقهم به, ابتداءً بمن يبيع الحب, ثم من يحرث الأرض ويزرع, ثم الذي يحصد, وآخر بعده يطحن الحب دقيقا, ثم من يعجن, ويليه الذي يخبز, ثم من يبيع ويوزع, في سلسلة من العمّال والصنَّاع جعل الله قوتهم وكسبهم من هذا الخبز.
 فمسألة الرزق أدق من أن يفهم الناس حكم الله فيها, لأن الله {هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58].
 فمن الناس من لم يكتب له رزقه إلا في أعماق البحار كالغواصين, أو في قلب الهواء بين السماء والأرض كالطيارين, أو يجدون لقمة عيشهم تحت الأرض في كسر الصخور كأصحاب المناجم.
 والعجب فيمن رزقه كامنٌ بين فكي الأسود يروضها, أو بين أنياب الفيلة وخراطيمها يسوسها.
 وأرزاق أناسٍ مرهونةً بأمراض موجع كالسرطان – عافانا الله وإياكم – فالطبيب وصانع الحقنة والممرض أرزاقهم مرهونة بهذا المرض الخبيث.
 من الناس من قوتهم مناط بالبرد القارس ليبيع مدفأة أو ملحفة، أو من قوتهم مناط بالحر الشديد ليبيع ثلجاً أو آلة تبريد ؟.
 وناسٌ رزقهم مناط بفرح زوجٍ وزوجةٍ ليؤجروا لهما وسائل الفرح.
 وهناك من رزقه مناط بأتراح الناس وأحزانهم فيحفر قبراً لفلان أو يبيع له كفناً
وآخرون يجلسون في بيوتهم يُدَقُ عليهم الباب يقال هذا كسب تجارتكم, وأرباح عقاراتكم, دون كبير كدٍ منهم أو تعب.
 إن العجب يزول إذا ما تأمل المرء قول الله تعالى:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].
   وللعمل منزلة شريفة في الإسلام أيَّـاً ما كان ذلك العمل, شرط أن يكون مباح الأصل, نافعا غير ضار, وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم, بمفهومه الشامل للعمل الدنيوي والأخروي, قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] .
فدلت الآية على إكرام الله تعالى للعاملين من الرجال والنساء عملاً صالحاً بالسعادة في الدنيا, فعلى المسلم أن يحرص على عمل الصالحات, وأن يخلص نيته لله تعالى في كل عمل صالح لقوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2].
 بل قدم القرآن في القرآن من يضرب في الأرض يبتغي الحلال على المجاهدين فقال, {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] .
قال القرطبي:" سوَّى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله والإحسان والإفضال, فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله".
وجاءت آيات كثيرة في القرآن تدل على أن الأنبياء كانوا يعملون في عدد من الحرف والصناعات اليدوية.
 فهذا نوح عليه السلام كان يعمل في النجارة وصناعة السفن: {وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود:37] .
ومن ذلك قوله تعالى عن داود عليه السلام :{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ  أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11] لأنه كان يعمل في صنع الدروع, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :((كان داود لا يأكل إلا من عمل يده)) رواه البخاري.
قال ابن حجر: والحكمة في تخصيص داود بالذكر أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة الله في الأرض، وإنما ابتغى الأكل من طريق أفضل أ.هـ
    وموسى عليه السلام عمل أجيراً عند الرجل الصالح, قال تعالى:{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] فتزوج ابنته وعمل عنده عشر سنين.
 وعمل زكريا عليه السلام في النجارة والخشب يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كان زكريا عليه السلام نجاراً)) رواه مسلم.
 قال النووي: "فيه جواز الصنائع، وأن النجارة لا تسقط المروءة، وأنها صنعة فاضلة". وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان داود زراداً ، وكان آدم حرَّاثاً، وكان نوح نجاراً، وكان إدريس خياطاً, وكان موسى راعياً عليهم السلام. وقد حث على العمل النبي صلى الله عليه وسلم, فكان خير العاملين.
 قالت عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصفُ نعله, ويخيط ثوبه, ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته" رواه الترمذي وأحمد وصححه ابن حبان .
وعمل نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رعي الغنم كما ثبت في صحيح البخاري أنه قال: ((ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم)), قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: ((وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)).
 ومارس رسولنا صلى الله عليه وسلم التجارة بأموال خديجة رضي الله عنه مضاربة, وبعد الهجرة كان كسبه أفضل كسب: ((وجعل رزقي تحت ظل رمحي)).
 فهؤلاء هم أقطاب النبوة من الرسل، قد شرفوا باحتراف مهنة يعيشون على كسبها.
 قال الحافظ ابن القيم: "إن النبي صلى الله عليه وسلم: باع واشترى، وشراؤه أكثر, وآجر واستأجر، وإيجاره أكثر, وضارب وشارك وتوكل، وتوكيله أكثر, وأهدى وأهدي إليه، ووهب واستوهب, واستدان واستعار، وضمن عاماً وخاصاً, ووقف وشفع، فقبل تارة ورد أخرى، ولم يعتب ولم يغضب, وحلف واستحلف، ومضى في يمينه وكفَّر أخرى, ومازح وروى ولم يقل إلا حقاً، وهو صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة.
 من تعظيم الله أمر العمل والصناعة باليد ما رواه كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه ما أعجبهم, فقالوا يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :((إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله, وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله, وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله, وإن كان خرج رياء وتفاخرا فهو في سبيل الشيطان)) رواه الطبراني وصححه الألباني.
   والصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار كانوا يعملون في أمر معاشهم, ولم يكونوا بطالين, بل كانوا أصحاب مهن وحرف, فمنهم اللحام والجزار والبزاز والحداد، والخياط والنساج والنجار والحجام والتاجر, وقد احترف التجارة منهم ناسٌ براً وبحراً،عملاً بقوله سبحانه:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77] وبقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] وثبت من حديث المقدام قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده)) رواه البخاري (2143).
 قال ابن حجر العسقلاني: والمراد بالخيرية ما يستلزم العمل باليد من الغنى عن الناس.  
 والعمل وسيلة لكسب الرزق من كد اليد, وهو خير من سؤال الناس, ومع إجادة المهنة يصون المسلم نفسه عن سؤال الناس, ولا ينبغي لأحدٍ الاستهانة بالعمل أو العمال, فهؤلاء يكسبون رزقهم من عمل أيديهم, وذلك أفضل وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطيب الكسب؟ فقال:((عمل الرجل بيده, وكل بيع مبرور)) رواه الحاكم.  
وقد قرر الإسلام وسائل كثيرة لتهيئة المجتمع للعمل, حتى لا يبقى فيه عاطل, إلا من كان عاجزاً, قد أعاقه المرض أو الشيخوخة, ومن تلك الوسائل:
- تشديد الإسلام في المسألة وتقبيحها, وتغلظيه على من امتهنها, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يسأل مسألة وهو عنها غني ، إلا جاءت يوم القيامة كدوحاً أو خدوشاً أو خموشاً في وجهه)) رواه ابن ماجه, فلا تجوز المسألة إلا في دم مفظع، أو غرم موجع، أو فقر مدقع, وقد ذكر الفقهاء أن على ولي الأمر أن يؤدب كل صحيح قادر على التكسب, يريد أن يعيش عالة على الآخرين.
-حث الإسلام على الاحتراف والعمل ورغب فيه, وصغر من شأن من يتهاون به, أو يحتقره أو يزَّهِدُ فيه, فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لأن أخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها, فيكف الله بها وجهه, خير له من أن يسأل الناس, أعطوه أو منعوه)) متفق عليه.
 وقد قال عمر بن الخطاب:"إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول :له حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني".
 وقد كان محمد بن سيرين إذا أتاه رجل من العرب قال له:" مالك لا تتجر ؟ كان أبو بكر تاجر قريش.
ومع انقلاب الموازين, وتحور المفاهيم, ما أن ينطق متكلم عن العمل, إلا ويتبادر إلى ذهن السامع الوظائف والأعمال المكتبية, وكأن العمل مقصور عليها, منحصر فيها, ما نتج عنه احتقار المهن وازدراء أصحابها، والإعلاء من شأن الوظيفة المكتبية, وهذه النظرة الدونية تمارس على جميع المستويات والطبقات، وتُغرَس في النفوس منذ الصغر، مع أن الوظيفة تأتي في المرتبة الدون من أبواب المكاسب،فأصول المكاسب ثلاثة: الزراعة والصناعة والتجارة، وفضَّل أبو حنيفة التجارة، ومال الماورديُّ إلى أن الزراعة أطيب الكل، ومثله العلقمي وقال: وأفضل ما يكتسبه من الزراعة, لأنها أقرب إلى التوكل. ولأنها أعم نفعا, ولأن الحاجة إليها أعم, وفيها عمل البدن أيضا, ولأنه لابد في العادة أن يؤكل منها بغير عوض, فيحصل له أجر وإن لم يكن ممن يعمل بيده, بل يعمل غلمانه وأجراؤه, فالكسب بها أفضل, ثم الصناعة, لأن الكسب فيها يحصل بكد اليمين, ثم التجارة لأن الصحابة كانوا يكتسبون به.
والأصح كما اختاره النووي أن العمل باليد أفضل, قال: فإن كان زارعا بيده فهو أطيب مطلقا, لجمعه بين هذه الفضيلة وفضيلة  الزراعة.
 قال ابن حجر: فوق ذلك من عمل اليد ما يكتسب من أموال الكفار بالجهاد, وهو مكسب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أشرف المكاسب لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى, وخذلان كلمة أعدائه, والنفع الأخروي.
وترى أنهم لم يذكروا الوظائف مع أنه جائزة من حيث الأصل, فيوسف عليه السلام عمل في الولاية بأجر معلوم, لمَّا علم من نفسه القدرة والكفاءة. ومع هذا فقد ورد في أحاديث أخرى النهي عن الزراعة, فعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله علليه وسلم يقول: ((إذا تبا يعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أبو داود. 
وحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال -ورأى سكة وشيئا من آلة الحرث- فقال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل)) رواه البخاري, وقد بوب البخاري للأحاديث الواردة في الذم باباً بعنوان: "باب التحذير من الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به" فإذا اشتغل المسلمون بالزراعة وتقاعسوا عن الجهاد , أو أنهم جاوزوا الحد في الاشتغال بالزراعة بحيث طغت على غيرها من الحرف, لأن اقتصاد القوة يأخذ بكل الحرف ولا يقتصر على واحدة منها.
ومن يفهم من الحديثين السابقين نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل الزراعة فهو مخطئ وواهم ،إنما كان المقصود هو الاقتصار على عمل واحد دون تعدد الأعمال والمهن والحرف هو المنهي عنه، فالواجب على الدولة هو تنوع صادراتها من الحرف والمهن لكي يحصل جميع المواطنين على عمل يكسبون منه، فتقل البطالة ويقل الاعتماد على الغير، أما من يقتصر على عمل واحد فإنه سيصبح ذليلا لغيره خاصة الدول فتقع تحت رحمة غيرها.
 والمهن اليدوية أعمال سَنِيَّة، وفروض كفاية مرعية، ولقد حظيت الحرف وأصحابها بعناية الرسول صلى الله عليه وسلم .
 فقد فصل في فضائلها، والتقى بأربابها، فدعا لهم وأرشدهم، وكان يستشهد بهم في حديثه، فيشبه بعض الأعمال الصالحات وأضدادها من الأعمال السيئة بحرف معروفة، كحامل المسك ونافخ الكير، وكان يتكلم مع كل صاحب حرفة بما يتعلق بحرفته، ويقول له ما يزيده بها اغتباطاً، وبآدابها وأحكامها ارتباطاً. 
وقد كان صلى الله عليه وسلم يرفع من شأن الحرفيين, فيجيب دعوتهم.
*عن أنس بن مالك قال: "إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقرب إليه خبزا من شعير ومرقا فيه دباء، قال أنس: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حول القصعة، فلم أزل أحب الدباء بعد ذلك اليوم. متفق عليه.
 قال النووي:فيه فوائد منها إباحة كسب الخياط,وقال العيني: وفيه جواز أكل الشريف طعام الخياط والصائغ, وإجابته إلى دعوته.
*وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب، فقال لغلام له قصاب –لحَّام-: اجعل لي طعاما يكفي خمسة، فإني أريد أن أدعو النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، فإني قد عرفت في وجهه الجوع، فدعاهم، فجاء معهم رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن هذا قد تبعنا فإن شئت أن تأذن له فأذن له وإن شئت أن يرجع رجع))،فقال: لا بل قد أذنت له.
قال النووي:أي يبيع اللحم, وفيه دليل على جواز الجزارة, وحل كسبها.
*وقد كان صلى الله عليه وسلم يشيد بالمبدعين من أصحاب الصنائع، ويوكلهم بالأعمال, فعن قيس بن طلق عن أبيه قال: بنيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة فكان يقول: ((قدموا اليمامي من الطين فإنه من أحسنكم له مسا)) رواه ابن حبان، وزاد أحمد: ((وأشدكم منكباً)).
وقد جاء الإسلام ببيان الأحكام المتعلقة بالحرف والصنائع, فنهى عن بعض الحرف لما فيها من المخالفات, وأرشد الحرفيين إلى البديل الصحيح.
 عن سعيد بن أبي الحسن قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ أتاه رجل، فقال: يا ابن عباس! إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس: "لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول: ((من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدا)) فربا الرجل ربوة شديدة، واصفر وجهه، فقال ابن عباس: "ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر، وكل شيء ليس فيه روح" رواه البخاري.
وقد انتشر فهم خاطئ عند بعض الناس, مفاده أن الاشتغال بطلب المعاش, والعمل في صنعة أو مهنة أو حرفة يمنع الوصول إلى مراتب العلماء، وأن العالم لا يبلغ هذه المنزلة إلا بالتفرغ الكامل، والبعد عن طلب المعاش والاحتراف، وأن الجمع بين العلم والحرفة صعب المنال.
 والصحيح أن لا تعارض بين الأمرين, فالصحابة كان العلم باعثاً لهم على العمل, فعن أبي مسعود البدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالصدقة، فما يجد أحدنا شيئا يتصدق به حتى ينطلق إلى السوق، فيحمل على ظهره، فيجيء بالمد فيعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني لأعرف اليوم رجلا له مائة ألف ما كان له يومئذ درهم. رواه النسائي.  
   وعلى نهج العلم والعمل سار جمع غفير من علمائنا وفقهائنا وأدبائنا من سلف هذه الأمة, فانخرط رموزها وعظماؤها في الاحتراف, والعمل لكسب الرزق إذ كانوا أصحاب حرف ومهن، وكانوا مع علمهم وزهدهم وتقواهم يسعون في هذه الدنيا, سعيا وراء عيشهم ورزقهم وقوت عيالهم, , ونسب جمع من عظماء الأمة وعلمائها إلى المهن فكان منهم:
 الآجري، نسبة إلى عمل الآجر وبيعه، الباقلاني، نسبة إلى الباقلا وبيعه، التوحيدي، نسبة إلى بيع التوحيد وهو نوع من التمور، والجصاص، نسبة إلى العمل بالجص وتبييض الجدران، والحاسب، نسبة إلى من يعرف الحساب، والقطعي، نسبة إلى بيع قطع الثياب، والقفال، والخراز، والخواص، والخباز، والصبان، والقطان، والحذاء، والسمان، والصواف، والزيات، والفراء .
إن انتساب هؤلاء العلماء الأجلاء للحرف أعطى صبغة العزة لأهل هذه الحرف, حتى لم يكد يوجد في المجتمع الإسلامي من ينتقص الحِرَفَ, أو ينتقص من شأن أصحابها.
 ولمَّا كان العلماء يعتمدون في كسبهم على عمل اليد, أو على قسمهم من أوقاف المسلمين عليهم, كانت أقوالهم تصدع بالحق, ولا يبالون في الله لومة لائم, فلم يكونوا يقومون لعرض, ولا يقعدون لغرض, فلم يكن لأهل الدنيا عليهم تأثير من قريب ولا من بعيد وبهذا يتقرر حقيقة عدم انفصال طلب المعاش عن طلب العلم، والقدوة في ذلك من سير الأنبياء والصالحين والسلف المبارك جليٌّ بما سبق التدليل به.
لحمل الصخر من قمم الجبال *** أحب إليَّ من منن الرجال
يقول الناس كسب فيه عار ***فقلت العار في ذل السؤال 
وبعد فهذه تلميحات سريعة على اهتمام الإسلام بالمهن والحرف، ودعوة القرآن ورسوله للعمل بها، وتطبيق الصحابة والعلماء لذلك.
وفي هذا تنبيه للحكومات على أن ييسروا القوانين لانتشار المهن والحرف وأن يدعموا الشعب دعما حقيقا، لا أن يعطوا بيد ويأخذوا بالأخرى أضعاف ما أعطوا.
والله أعلم
المصادر والمراجع
-تفسير القرطبي.
-فتح الباري شرح صحيح البخاري.
-شرح النووي على صحيح مسلم.
-شرح العيني على صحيح البخاري.
-عناية الإسلام بالمهن والحرف ،بلال بن عبد الصابر قديري.