Friday, September 11, 2015

الريح والرياح في القرآن الكريم مفردة وجمعا،تفسير وبيان وبلاغة



الريح والرياح في القرآن الكريم مفردة وجمعا،تفسير وبيان وبلاغة:

المسلم الصادق مهتم بالقرآن الكريم، يتتبع أوامره فيعملها، ويعرف نواهيه فيبتعد عنها، ويقرأ وصاياه فيطبقها، ويتلو آياته فيخشع لها، ويتدبر في معانيها ويعرف مغزاها.
القرآن الكريم نور يهدي الإنسان من ظلمات التيه، ومن منعرجات الهوى، ويأخذ بيده بحبله المتين من قاع بئر ظلمات المعاصي لرياض نور الطاعات.
وباستمرار تلاوته وتدبره يقترب شيئا فشيئا من الجنة ويكون القرآن له شفيعا يوم القيامة وسدا منيعا من عذاب القبر.
فما أفضلها من نتيجة وما أحلاها من عاقبة!
 والقرآن الكريم كتاب يجلوا عن الذهن القتام، هو هدى وشفاء، يدفع كل ضرَّاء ويزيل كل شقاء،اقتفاؤه صلاح ،وإتباعه فلاح ،والعمل به نجاح .
و القرآن معجز ببيانه وخطابه ، ولفظه وكَلِمِهِ،تحدى الله به العرب والعجم ، والإنس والجن في كل الأمم ، أن يأتوا بسورة ،بعشر آيات،بل بآية مثله،فما استطاعوا .
و هو كتاب معجزٌ أفحم مصاقع الخطباء ،وفاق حديث العرب العرباء ، وخطاب مفحم أعجز البلغاء من عصابة الأدباء،أساس الفصاحة، وينبوع البلاغة والبراعة.
فما علينا سوى تأمل ما في القرآن من حكم وتشريع، من علم ومعرفة، من ثقافة وكنوز خفية وظاهرة، نستلهم منها النور لتضيء لنا الطريق في هذه الحياة.

وعندما نستقرئ  أساليب القرآن الكريم نرى أن لفظة (الريح) مفردا أو جمعا، كل منهما تُستخدم في موضعها اللائق بها، ولكل كلمة منها مقام، ولكل مقام منها مقال، حيث ذكرت(الريح) في سياق الرحمة جاءت مجموعة (الرياح)،كقول الله الرحيم:
 (الله الذي يرسل الرياح).
(وأرسلنا الرياح لواقح).
( ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات).
وحيث ذكرت (الريح) في سياق العذاب فإنها تأتي مفردة، كقول الله المنتقم:
(فأرسلنا عليهم ريحا صرصا في أيام نحسات).
 ( فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها).
 ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتيه).
 (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف).
 ( وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم).
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عباسي يقول:[هاجت ريح أشفق منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلها، وجثا على ركبيته،ومدَّ يديه إلى السماء ثم قال: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا ].

وسر هذا الاختلاف في التعبير:
أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والماهيات والمنافع، وإذا هاجت منها ريح أُثير لها من مُقابلها ما يكسر سَورَتها، فينشأ من بينهما ريح لطيفة  تنفع الحيوان والنبات، فكل ريح منها في مقابها ما يُعدِّلُها ويردُّ سَورَتها، فكانت في الرحمة رياحا.

أما رياح العذاب فإنها تأتي من وجه واحد، لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرها، حتى تنتهي إلى حيث أمرت، ولا يردُّ سَورَتها ولا يكسر شِرَّتها شيء، فتمتثل ما أُمِرَت به، وتُصيب ما أُرسِلَت إليه، ولهذا وصفها الله بــ(العقيم) فقال (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم)، وهي لا تُلقِّح ولا خير فيها على الظاهر، والتي تُعقم ما مرَّت عليه.

وقد جاءت هذه القاعدة (الريح مفردة للعذاب) و(الرياح مجموعة للرحمة) إلا في قول الله الحكيم ((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ  حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ ))[يونس /22].
وابتدئ الإتيان بضمير الغيبة من آخر ذكر النعمة عند قوله: (وجرين بهم بريح طيبة) للتصريح بأن النعمة شملتهم، وللإشارة إلى أن مجيء العاصفة فجأة في حال الفرح مراد منه ابتلاؤهم وتخويفهم. فهو تمهيد لقوله: (وجاءهم الموج من كل مكان).

وفي ذكر جريهن بريح طيبة وفرحهم بها إيماء إلى أن مجيء العاصفة حدث فجأة دون توقع من دلالة علامات النوتية كما هو الغالب. وفيه إيماء إلى أن ذلك بتقدير مراد لله تعالى ليخوفهم ويذكرهم بوحدانيته. وضمير جاءتها عائد إلى الفلك لأن جمع غير العاقل يعامل معاملة المفرد المؤنث.

ومن بديع الأسلوب في الآية أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر الخطاب الصالحة لجميع السامعين.
 فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين فقال: (وجرين بهم) على طريقة الالتفات، أي وجرين بكم.
وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى أن قال: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) فإن هذا ليس من شيم المؤمنين فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين، فقد أخرج من الخبر من عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلا على القرينة لأن الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين.
وهذا ضرب من الالتفات لم ينبه عليه أهل المعاني وهو كالتخصيص بطريق الرمز.

فقد ذُكر في الآية الريح بالإفراد للرحمة، عكس القاعدة التي تتطلب أن تكون بصيغة الجمع (رياح)، فقال (بريح طيبة) فلماذا هذا الاختلاف؟

جاء التعبير بإفراد (الريح) في الآية ، لوجهين:

أحدهما: لفظي، وهو المقابلة، فقد ذكر ما يُقابلها من ريح العذاب في قوله (جاءتها ريح عاصف) وهي لا تكون إلا مفردة لأنها جاءت للعذاب، فقابلها ذكر (ريح طيبة) تجيء للرحمة ليتسق الكلام، ويحسن وضعه، وليقابل(العذاب) (الرحمة) حتى يتوازن فكر الإنسان والمسلم في الخوف من الله والرجاء لله، فيتعانق الخوف والرجاء.

الثاني: معنوي، وهو أن تمام الرحمة في الآية إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها، فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد، فإن اختلفت عليها الرياح وتصادمت كان ذلك سبب الهلاك والغرق، فالمطلوب ريح واحدة.

وهذا ما أكد المعنى فوصفها بـ [الطيبة] فقال (ريح طيبة) دفعا لتوهم أن تكون عاصفة بل هي ريح يُفْرَحُ  بطيبها.

وعلة وجود ريح الشر، ورياح للخير، يمكنك أن تستشفها من النظر إلى الوجود كله؛ هذا النظر يوضح لك أن الهواء له مراحل، فهواء الرخاء هو الذي يمر خفيفا، مثل النسيم العليل، وأحيانا يتوقف الهواء فلا تمر نسمة واحدة، ولكننا نتنفس الهواء الساكن الساخن أثناء حرارة الجو، ثم يشتد الهواء أحيانا؛ فيصير رياحا قوية بعض الشيء، ثم يتحول إلى أعاصير.

والهواء كما نعلم هو المقوم الأساسي لكل كائن حي، ولكل كائن ثابت غير حي، فإذا كان الهواء هو المقوم الأساسي للنفس الإنسانية، فالعمارات الضخمة مثل ناطحات السحاب لا تثبت بمكانها إلا نتيجة توازن تيارات الهواء حولها، وإن حدث تفريغ للهواء تجاه جانب من جوانبها؛ فالعمارة تنهار.

إذن: فالذي يحقق التوازن في الكون كله هو الهواء.
ولذلك نجد القرآن الكريم قد فصل أمر الرياح وأوضح مهمتها.
{حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة} وكأنه سبحانه يتكلم هنا عن السفن الشراعية التي تسير بالهواء المتجمع في أشرعتها.
وإذا كان التقدم في صناعة السفن قد تعدى الشراع، وانتقل إلى البخار، ثم الكهرباء، فإن كلمة الحق سبحانه: {بريح طيبة} تستوعب كل مراحل الارتقاء، خصوصا وأن كلمة «الريح» قد وردت في القرآن الكريم بمعنى القوة أيا كانت: من هواء، أو محرك يسير بأية طاقة.

وقال الشوكاني في تفسير آية يونس المتقدمة: (وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد... وبيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما يشابهها، فيا عجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات، فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا لله كما فعله المشركون!)
فإذا صفا الفكر واستيقظت الفطرة أيقن الإنسان أنه لا يعبد إلا الله وحده في جميع أنواع العبادات،.

وبمثل هذا كان أسلم عكرمة بن أبي جهل فقد روى سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – ما حاصله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهدر يوم الفتح دم جماعة منهم عكرمة بن أبي جهل هرب من مكة وركب البحر، فأصابهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً،فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً فجاء فأسلم).

إن القرآن الكريم نور للبشرية جمعاء، ودستور أنزله رب السماء،ونبراسٌ يضئ جوانب الأرض والفضاء،فيه نبأ من قبلنا من الأمم ،وما شَرَعَهُ ربنا وحَكَمْ،وما أَمَرَنَا بإتِّبَاعِهِ وألزم،وما نهانا عنه ربنا وحرَّم ،ينظم الحياة للبشر،ويـدل عـلى الـخـيـر ويحذر من الشر،ملئ بالأخبار والمواعظ والعبر .
فلينزه الفطن بصيرته في هذه الرياض المونقة المعجبة التي ترقص القلوب لها فرحاً ويغتذي بها عن الطعام والشراب فالحمد لله الفتاح العليم . فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه ، وهذه المعاني ونحوها إذا تجلت للقلوب رافلة في حللها فإنها تسبي القلوب وتأخذ بمجامعها .

قال الشاعر:
سعادتنا في نهجه واتباعه **** وأسلوبه كالشهد عذب مسلسل 
ويدعو إلى الإحسان والبر والهدى *** هو العروة الوثقى لمن كان يعقلُ
ألا إنه القرآن دستور ربنا *** فأكرم به ذاك الكتابُ المفصَّلُ
هنيئاً لمن قد جاء يسعى بنوره *** وطوبى لمن في الحشر أقبل يعملُ
إذا فخر الإنسان يوماً برتبةٍ *** فحفَّاظه بالفخر أولى وأفضلُ
فطوبى لحفاظ الكتاب فإنهم *** مع الصفوة الأبرار في الروض ترفلُ

والله أعلم
المصادر:
-البرهان في علوم القرآن للزركشي4/9.
- الاتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/194
-ما اتفق لفظه واختلف معناه لابن الشجري ص
16-معترك الأقران في اعجاز القرآن للسيوطي 3/596.
-بدائع الفوائد لابن قيم 1/118
-من أسرار التعبير في القرآن الكريم،صفاء الكلمة،صلاح لاشين ص 141-142
-تفسير الشعراوي 2/691
-فتح القدير للشوكاني 2/435
-تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 11/135-136

Sunday, September 6, 2015

السمع والأبصار الإفراد والجمع في القرآن الكريم،بيان وبديع وتفسير



السمع والأبصار الإفراد والجمع في القرآن الكريم،بيان وبديع وتفسير:
يسوق القرآن الكريم المسلم إلى الصراط المستقيم، ويدله على الطريق القويم.
فيكون المسلم سامعا لما أمر الله تعالى وأخبر به، مبصرا لعواقب النفاق والنكران والحجود.
فيُصَدِّق كل ما جاء في القرآن وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الشريعة والغيب والدار الآخرة.
فيؤمن إيمانا يقينا، لأن الإنسان مهما طال العمر به فإنه ميّت لا محالة.
أما الظالمون والمجرمون والكافرون والمنافقون فإنهم لا يؤمنون بكلام الله وما جاء في القرآن الكريم، ويسخرون من ذلك، ويستهزئون به، حتى إذا جاء يوم القيامة فرأوا وشاهدوا عندها سيعترفون لكن لن ينفعهم ذلك الاعتراف.
وكيف يكفرون ويجرمون بحق أنفسهم وبحق الآخرين، والله اعطاهم حواس داخلية وخارجية،ليتعاملوا في هذه الحياة، فأعطاهم الأذن للسمع، والعين للبصر، والقلب للشعور، والعقل للتفكر، والأعضاء للعمل.
وفي هذا القرآن الكريم ورد لفظ السمع والبصر إفرادا وجمعا، بتقديم وتأخير لحكمة ربانية ولبيان بديع وبلاغة سامقة.
وفي هذا الموضوع سنكتشف ذلك، فلنسر في رياض القرآن للتفكر والتدبر.

نلاحظ في التعبير القرآني أن الله سبحانه وتعاظمت حكمته، حينما يتكلم عن [السمع والبصر] يخالف بينهما في الإفراد والجمع.
يقول الله تعالى(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
فالسمع مفرد دائما، والأبصار مجموعة دائمة، والمعهود في تصورنا البشري،ومفهومنا التعبيري أن يكون الكلام [وجعل لكم[السمع والبصر] أو [الأسماع والأبصار]،فلماذا جاء(السمع)مفردا، و(الأبصار) جمعا؟
يقال في أسباب ذلك:
إن استقبال الأذن لمسموع لا خيار للإنسان فيه، فلا يمكن أن يمنع أذنه أن تسمع شيئا وصل إليها،أو وقع عليها.
أما العين فلها الخيار في ذلك، لها أن ترى المنظر الذي أمامها فتحملق فيه، ولها أن تغمض فلا ترى مما أمامها شيئا.
بخلاف الأذن فما صدر من صوت ووقع على الأذن فلا بد أن تسمعه،فإذا جاء إنسان وصرخ في جمع من الناس سمعه الناس جميعا.
فلا خيار للإنسان في قبول المسموع إذا كان المسموع في الجماعة واحدا،إذا فـ[السمع واحد].
لكنَّ [الأبصار] قد تتعدد مرائيها،هذا يُبصِر ذلك الشيء،وذلك لا يُبصر، لأن هناك تحكم في العضو نفسه؛ بحيث يرى أو لا يرى.
أما السمع فلا خيار لأحد فيه.
لذلك جاء [السمع] مفردا، وبالأبصار] مجموعة..
فإن مرَّت إمرأة متبرجة فأنت بالخيار إن تريد أن تنظر لها أو لا تنظر إليها.
فإذا تكلمت امرأة فإنك ستسمع صوتها ولا خيار لك في ذلك.
والأبصار لم تأت مفردة إلا في آية واحدة من القرآن الكريم، في قوله سمَتْ كلمتُه (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)
والسبب في ذلك أن الكلام هنا عن المسؤولية الذاتية وهي مسؤولية فردية، فكل إنسان مسؤول عن نظره وبصره، وليس مسؤولا عن أبصار غيره وأنظارهم،ولهذا أفرد لفظ [البصر] هنا.

وخص [السمع والبصر،والفؤاد] في الآية لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها.

وقدَّم منافع [السمع والبصر] حيث إننا نُعمِلُ السمع والبصر أولاً في آيات الله وأفعاله، ثم ننظر ونستدلُّ بالأفئدة والقلوب.
ومَن لم  يُعمِلُ [السمع والبصر والأفئدة] فيما خُلِقَت له، فهو بمنزلة عادمها،يقول الله العظيم(فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله).

وفي قول الله الكريم (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون):
يقرر أن الإنسان خرج من بطن أمه لا يعلم شيئا، لكن خلق معه وسائل العلم والاداراك، وسائل تربطه بالعالم الخارجي، وأخرى تربطه بعالمه الداخلي.

فوسائل الإدراك التي تربطه بعالمه الداخلي: هي
 ما يجده الإنسان بغير آلة من آلات حسه الظاهرة المعروفة، أي من خلال شعوره وعاطفته، كشعوره بالحب والخوف، والجوع والعطش، وغير ذلك.

أما الوسائل التي تربطه بالعالم الخارجي فهي:
السمع ثم البصر، إذ نسمع ثم نرى ثم ينشأ من هذه المحسات أمور عقلية وأمور وجدانية وأمور قلبية.

والقرآن الكريم حينما تحدث عن منافذ المعرفة في الإنسان، جعلها بهذا الترتيب:
(وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة).
(إن السمع والبصر والفؤاد).
 (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم).
فأول ما يولد الإنسان تكون أول حاسة من حواسه تؤدي مهمتها هي حاسة الأذن،ثم يأتي دور العين فتؤدي مهمتها في خلال أيام، ذلك لأن المولود يولد وعينيه مغمضتين ثم تفتح بعد عدة أيام،بينما سمع المولود فتكون تعمل من يوم مولده.

فإذا تحدث الله الحكيم عن [السمع والبصر] جعل [السمع] أولا و[البصر] تاليا، وبعد ذلك تتكون المعلومات العقلية والقلبية التي يَبني عليها حركة حياته.

والسمع :هو الحاسة الوحيدة التي تؤدي مهمتها من وقت ولادة الإنسان، وتظل تؤدي دورها حتى عند النوم، فالعين تُغمِضُ، لكنَّ الأذنَ تظلُّ مستقبلة دائما،لهذا لما أراد الله تعالى أن يُنيم أصحاب الكهف مدة طويلة، وهذا على غير المألوف من قانون البشر،فهم قومٌ في كهف،والكهف في جبل، والجبل في صحراء، وهناك برق ورعد وأصوات الرياح والحيوانات، فلما أراد الله الرحيم أن يمنع عنهم هذه المنبهات التي تُخرجهم عن النوم،قال(فضربنا على آذانهم في الكهف سنينَ عددا).

وبعد هذا نفهم السر في إفراد[السمع] وجمع[البصر]، وتقديم [السمع] على[البصر] في قول الله الوهاب((والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون))

والله المنّان،لم يُقَدِّم البصر على السمع في القرآن الكريم إلا في آية واحد ، في قوله(وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ).
أي أبصرنا من الدلائل المبصرة ما يصدق ما أخبرنا به- فقد رأوا البعث من القبور ورأوا ما يعامل به المكذبون-، وسمعنا من أقوال الملائكة ما فيه تصديق الوعيد الذي توعدنا به.

إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة، والإقرار بالحق الذي جحدوه، وإعلان اليقين بما شكوا فيه، وطلب العودة إلى الأرض لإصلاح ما فات في الحياة الأولى.. وهم ناكسو رؤوسهم خجلا وخزيا.. «عِنْدَ رَبِّهِمْ» .. الذي كانوا يكفرون بلقائه في الدنيا.. ولكن هذا كله يجيء بعد فوات الأوان حيث لا يجدي اعتراف ولا إعلان.

وسبب تقديم (البصر) على (السمع) في هذه الآية، هو أن هذه الآية في وصف مشهد من مشاهد يوم القيامة.
فقدم البصر على السمع؛ لأن في القيامة تفجؤهم المرائي ومناظر ومشاهد يوم القيمة أولاً قبل أن تفجأهم الأصوات، وهذه من مظاهر الدقة في الأداء القرآني المعجز.
وكأن الحق سبحانه يقول: لا عذر لك عندي فقد أعطيتك سمعا لتسمع البلاغ عني من الرسول، وأعطيتك عينا لتلتفت إلى آيات الكون، وأعطيتك فؤادا تفكر به، وتنتهي إلى حصيلة إيمانية تدلك على وجود الخالق عز وجل.

إذن: ما أخذتك على غرة، ولا خدعتك في شيء، إنما خلقتك من عدم، وأمددتك من عدم، ورتبت لك منافذ الإدراك ترتيبا منطقيا تكوينيا، فأي عذر لك بعد ذلك. . وإياكم بعد هذا كله أن تشغلكم الأهواء، وتصرفكم عن البلاغ الذي جاءكم على لسان رسولنا.

وهنا قدم الحق مادة الإبصار على مادة السمع؛ لأن هول القيامة ساعة يأتي سنرى تغيرا في الكون قبل أن نسمع شيئا.
والحديث هنا ليس عن الدنيا، بل عن الآخرة، حيث يفزع الناس من هولها فيقولون: {ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا. .}لأنهم في الآخرة أبصروا قبل أن يسمعوا.
فلماذا أبصروا وسمعوا الآن؟ لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا عن غير وعي، فينكرون ويبصرون آيات الله في الكون ولا يؤمنون، أما في الآخرة فقد انكشفت لهم الحقائق التي طالما أنكروها، ولم يعد هناك مجال للمكابرة أو الإنكار.
فالإنسان يوم القيامة يرى أولا، فجاءت الآية منطقية مع وقتها ومع واقعها، فقدَّمت البصر على السمع.

فما أجمل القرآن الكريم، وما أعظم آيات الله الكريمات، وما أدق بيان الله.
إن المسلم المتفكر في آيات القرآن الكريم، والمتدبر لكلام الله، يمتلئ قلبه إيمنا، ويطفح حبا بالله ولله، وتسمو نفسه، وتشتاق روحه لرؤية الله وأن تكون قريبة منه وبجواره.
فاجعل للقرآن الكريم من وقتك نصيبا، لتلاوته والتفكر به والتدبر، عسى ولعل يكون لك شفيعا يوم القيامة وذخرا تخبئه ليوم القيامة.

يقول الشاعر:
يا أيها الكَلم العلى الشان **يا من أضأتَ غياهبَ الإنسان
فبذكر حرفكَ تطمئنُ قلوبُنا** وبعلم نِحوكَ يستقيمُ لساني
والنفسُ تدخلُ في محاريب الهدى** والروحَ تسبحُ في سنا الشطآن
يا حصن أمن المسلمين وفخرهم** يا خير ما نطقت به الشفتان
ما دمت فينا لن يتوه سفيننا** فالحرف نور في يد الربان
من عند ربي قد أتيت مفصلاً** وبقيت وحياً دائم التبيان
تؤتى ثمار الأمن في كل المدى** فالغرس نور والشذى نوراني
لك في صدور المسلمين رحابة** ولك الفيوض تموج بالأزمان
يا حظ من حفظَ الكتاب بقلبه** يا سعده بتلاوة القرآن
يلقى من المولى الكريم وصاله** ويفوز بالفردوس والرضوان

المصادر والمراجع:
- القضاء والقدر ص 11.
 - فن الاسجاع 2/194.
- ألحان الأصيل 341.
-المعاني في ضوء أساليب القرآن 150.
-الصناعتين337.
-على مائدة الفكر الاسلامي 334-340
- من أسرار التعبير في القرآن ، صفاء الكلمة، صلاح لاشين ،ص 137-140
-تفسير الشعراوي.
-تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور.
-في ظلال القرآن لسيد قطب.