Saturday, January 31, 2015

جمال التعبير في (استأنس و استأذن) معان تعمر القلب بالإيمان

جمال التعبير في (استأنس و استأذن) معان تعمر القلب بالإيمان:

يزخر القرآن الكريم بكثير من المعاني التي تجلو عن القلب صدأ الغفلة، 

وتمحي عن النفس ضباب الضلالة، وتعمر في القلب رياض الأنس بالله،  

وترقي الروحَ إلى معارج الاصطفاء ، وتحرك في النفس شجون الحنين ل

مجاورة رب العالمين، فتدمع العين ويتقد القلب وتسمو الروح وتطهر النفس.

والقرآن الكريم لا يعرف قدره من يجهله ومن يحاربه تعصبا أو ابتغاء لدنيا 

أو مال أو شهرة،  إنما يعرف قدر القرآن الكريم ومكانته من عرفه وتعرف 

إلى آياته وفهم جمال تعبيره ورونق كلماته وبدائع عباراته، 

وقال ابن جرير الطبري: إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف 

يلتذ بقراءته.

وألفاظ القرآن كثيرة المعاني جميلة المقاصد بديعة الأهداف،والمحروم مَن جحد القرآن وحاربه، والمحروم من جعل القرآن وراء كل قول أو حكم وقدَّم عليه شهواته أو طلبات حاكمه أو أميره طمعا بمال أو منصب أو إبقاء على عطاء ومكانة.

والملتذ بقراءة القرآن يعرف مواقع ألفاظ القرآن في القلوب وتأثيرها على النفوس،
قال مصطفى صادق لرافعي(ألفاظ –القرآن- إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة ، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة ، معان هي عذوبة ترويك من ماء البيان ، ورقة تستروح منها نسيم الجنان ، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان ).

فما أشدها من حسرة وما أعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه فالله المستعان .

ولنطلع معاً إلى جمال التعبير في (استأنس و استأذن) معان تعمر القلب بالإيمان:

(استأنس) و(استأذن) فعلان، قد يظن بعضهم أنهما بمعنى واحد،وهو طلب الإن في الدخول ، وهذا الظن غير صحيح.

لقد استخدم التعبير القرآني الفعلين، وجعل لكل منهما معنى.

استأنس: الأُنس النفسي:

كلمة (آنس) فعل ماض من (الإيناس) وردت ثلاث مرات في سياق واحد وهذا السياق هو قصة موسى عليه السلام فلما عاد من مَدْيَن بعد أن أنهى عش سنوات من خدمة أب الفتاة التي تزوجها من بلاد الشام، فلما عاد إلى مصر مع أهله ضلَّ الطريق في الصحراء ليلاً بسبب الأحوال الجوية ،فرأى ناراً على جبل الطور مِن بعيد، فلما رآها: ( قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ).

والكلمة فيها معنى الأُنْس النفسي الشعوري إذ ارتاحت نفس موسى عليه السلام لما رأى النار من بعيد وتوقع أن يجد عندها الدليل للطريق.

من ناحية أخرى؛ أوجب الله على المسلمين الاستئناس عند الدخول لبيوت الآخرين فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ). 

استأذن: الاذن المادي:

وكذلك اوجب الله على المسلمين الاستئذان عند الدخول للبيوت وورد هذا في اكثر من آية قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ  كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِه  وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).

لقد وردت الكلمتان في موضوع واحد وهو آداب دخول البيوت :
ففي كل من الفعلين (استأذن) و(استأنس)  إشارة على معنى الطلب .
والهمزة والسين والتاء دلالة على الطلب.
لكن استأنس يدل على طلب الأُنس
واستأذن يدل على طلب الإذن.

الفرق بينهما من وجهين :

الفرق الأول: 
إن الاستئناس يسبق الاستئذان أي انه مرحلة أولى بينما الاستئذان مرحلة ثانية.
فإذا أردا المسلم زيارة أخيه في بيته فلا بد له أن يستأنس أولا قبل أن يستأذنوا لهذا أوجب الله علينا بقوله " حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ".
انه قبل أن يخرج من بيته إلى بيت أخيه يسأل نفسه هل يحصل الأُنس عند أخيه وهل يأنس أخوه به ويأنس إليه هل هذا وقت مناسب للزيارة أم لا؟
فإذا توقع الأُنس من أخيه واستأنس بالزيارة فإنه يخرج من بيته ويذهب إلى بيت أخيه ويطرق بابه ويستأذن بالدخول...
ثم إن الاستئناس حركة نفسية شعورية ذاتية
بينما الاستئذان حركة مادية عملية خارجية تتصل بالآخرين.

الفرق الثاني: 
إن الاستئناس مطلوب من الزائر الخارجي الذي ليس من أهل البيت ليكون وقته مناسبا للزيارة ثم يأتي الاستئذان
أما الاستئذان فهو حركة داخلية مطلوب من أهل البيت وموظفيه وخدمه( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ  وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ َاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).
إن الاستئناس في التعبير القرآني للقادم من بعيد في الوقت المناسب قبل الاستئذان وعند وقوفه على باب البيت.
أما الاستئذان فهو لمن كان داخل البيت يطرق الأبواب الداخلية لحجرات البيت.

قال أحمد محرم:

يا منصفي القرآن من أعدائه*** أنتم لقومكم العتاد الأكبر

هذا سبيل المؤمنين لكم به *** أجر المجاهد والمجاهد يؤجر

أنريد رحمة ربنا وكتابه *** يجفى على مر الزمان ويهجر

أنتم فريق الله ليس كصنعكم *** صنع وأنتم حزبه المتخير

الذكر محفوظ بصالح سعيكم*** باق على الدنيا يذاع وينشر

يزع النفوس عن الهوى ويردها ***عما يعيب من الأمور وينكر

ويقيم للأخلاق من آياته ***صرحا تراع له الصروح وتذعر

يعطي المقاوم والمواقف حقها ***فمبشر آنا وآنا منذر

الله أكرمكم به وأحبكم ***والله يكرم من يحب ويشكر

 والله تعالى أعلم .
المصادر:
-بدائع الفوائد لابن القيم.

- إعجاز القرآن لمصطفى صادق الرافعي.

- لطائف القرآن لصلاح الخالدي.

-معجم الأدباء.

-ديوان أحمد محرم.

Tuesday, January 20, 2015

العمى والعمه، فروق في المعاني في القرآن الكريم تحذر وتنذر،وتبين وترشد

العمى والعمه، فروق في المعاني في القرآن الكريم تحذر وتنذر،وتبين وترشد:
في القرآن الكريم طريق النجاة في الحياة الدنيا والآخرة ففيه تعاليم ربانية للإنسان كي ينظم معيشته و يؤسس حياته على عمل الخير وفعل الصالحات وتقديم المساعدة للمجتمع ولأسرته.
وفي القرآن الكريم سبيل الهداية للحق والحقيقة وإقامة صرح الحضارة بأسس علمية وعملية لا تضر بالآخرين وتحفظ حقوق الإنسان رجلا كان أو امرأة أو طفلا أو حيوانا أو نباتا، إذ الخلق عيال الله وأحبهم إلى الله أرحمهم وأنفعهم وألطفهم بعياله.
والحائدون عن نهج القرآن السائرون في متاهات التعصب هم الأخسرون أعمالا، إذ يحجرون رحمة الله ويضيقونها لتكون محصورة فيهم وبهم، فهم سلكوا مسلك اليهود إذ حسبوا أنهم شعب الله المختار.
والحائدون عن نهج القرآن الكريم بالاستهزاء به وبالإسلام وشريعته ونبيه إنما يسيئون لأنفسهم ولن يصيب القرآن ولا الإسلام ولا شريعته ضررا،لأن الله تكفل بحفظ ذلك ومن تكفل الله بحفظه فلا يُخَاف عليه من الضياع والاندثار.
والحائدون عن نهج الله وتعاليم القرآن الكريم وما صح من السنة بما وافق القرآن الكريم هم الذين وقفوا مع الباطل والظالم ضد الحق والمظلوم، فأفتوا بما يوافق أهواء الملك والأمير والحاكم والرئيس، وساروا بطريق التردد والحيرة، فكَفَّرُوا المسلمين ووصفوهم بالضلال والفسق، فكانوا أئمة على أبواب جهنم بما درَّسوا الآخرين وألَّفوا كتبا وأَفْتَوا وأَلْقَوا محاضرات تشبعت قلوب أتباعهم بالحقد والضغينة والكره والكراهية لباقي المسلمين فكان أن وُجِد فئات يقتلون المسلمين ويرهبونهم ويَسلبون حياتهم وأموالهم وديارهم يُفسِدون في الأرض ولا يُصلِحون ويشوهون الإسلام.    
فهؤلاء وأولئك عميت قلوبهم عن الهدى ورتعوا في الحيرة والتردد وأصابهم عمى القلب وعمى البصيرة والعمه ترسخ فيهم لما فعلوه وصنعوه.

العمى والعمه بيان وفرق في القرآن الكريم:
معلوم أن (العمى) هو فقدان البصر، وقد استعمل في لقرآن بمعنى:فقد البصر،كما في قوله تعالى( عبس وتولى أن جاءه الأعمى)، وهو الصحابي المصاب بالعمى : عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه.
وكثيرا ما وردت كلمة " العمى" اشتقاقاتها في القرآن الكريم، بمعنى فقدان البصيرة أو عمى القلب، كما في قوله جلتْ آياتُه (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ).
وكقوله سمتْ كلماتُه(وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً).
وقوله علتْ صفاتُه(فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
فأنت ترى في هذه الآيات المباركات مجيء كلمة (أعمى و تعمى) دالة على فقدان البصيرة من الذي عمى قلبُه حسا ووجدانا، عقلا وفكرا، عن الحق والحقيقة الماثلة أمامه بكل معانيها الظاهرة بكل مبانيها الواحة بكل تفاصليها بأن القرآن الكريم كتاب الله وكلامُه، وأن دين الإسلام خاتم الأديان، وأن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم النبي الخاتم والرسول من الله لكافة خلقه.
فمن ينكر ذلك ويجحده فهو أعمى القلب والعقل لأنه يرى ويعرف ثم يطمس وينكر.

أما "العمه" فقد وردت منها صيغة الفعل المضارع(يعمهون) سبع مرات في القرآن الكريم، ومعظم هذه المرات مسبوقة بالطغيان (في طغيانهم يعمهون).
ومعنى "العمه " كما يقول الراغب الأصفهاني، هو: "التردد في الأمر ، من التحير".
والتردد والتحير يصيب القلب والعقل والفكر والتصور، فلا تُخطئ إذا قلت: إن العمه هو عمى القلب، وتكمن الخطورة البالغة على صاحبه،لأن الإنسان يمكنه أن يعيش مع عمى البصر ، وقد يكون الأعمى صالحا فيفوز بالجنة في الآخرة بمشيئة الله.
أما إذا أصيب الإنسان بالعمه، وعُمٍيَ قلبُه  وفقد بصيرته ووقع في التردد والحيرة والضلال،وأصرّ على ذلك وأنكر الحق وجحد الحقيقة وتنكر للعقل ومنطقه وللفكر ونوره وللعلم وضيائه وللحكم وأدلتة، وللأدلة وقوتها، فإنه بلا ريب خسر خسرانا كبيرا، وبلا شك فقد ضل ضلالا بعيدا..
وأسباب العمه بينها القرآن الكريم :
فحين يستحب الإنسان الحياة الدنيا على الآخرة ، ولا يؤمن بلقاء اللـه ، ويزين له عمله ويحسب انه لا يبتلى ، ويستهزئ بآيات اللـه ، ويعود إلى الكفر بعد الإيمان ، ويعيش في سكرة الدنيا ، يسـلبه اللـه بصيرته ويذره في طغيانه ، بل ويمـده في ذلك الطغيان . هذه هي البصائر التي نستفيدها من آيات الذكر حول أسباب العمى ، وسنتلوها معا بإذن اللـه .
1
- الهدى مـن عند اللـه ، ومـن لا يرزقه اللـه نعمة الهدى يبقى في متاهات العمى.
وحتى ترزق الهدى لا بد لك من طلب الهدى والبحث عن الهداية، وأن تتقبلها إن وجدتها حتى ولو كان ذلك مخالفا لشهواتك أو أهوائك ، أما إذا جحدت وأنكرت عن علم ودراية فأنت كالذي لا يرجـو لقاء اللـه وهـو الذي يتركه لشأنه ولنفسه ،فيطغـى ويصيبه العمـى والعمـه،يقول اللـه تعالى : { فَنَذَرُ الَّذِينَ لايَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (يونس/11)
2
- إنهم يعيشون في حدود الدنيا،حيث لا يتجاوز علمهم وهمهم الحياة العاجلة ، فتحيط بهم سكرة النعـم وتعمه بصائرهم بها، ويظنون أنهم اكتسبوا المال والسلطة و النفوذ والقوة بجهدهم فقط لا علاقة لله بذلك، فيكونوا كمن سكر من شرب الخمر ففعل أفعالا منافية للعقل وقال أقوالا تشمئز منها النفوس، فهم يعيشون عيشة المخمور،فاحذر أن تكون منهم،يقول اللـه تعالى : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سْكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } (الحجر/72).
3 /
وانهم - بكفرهم بالاخرة - يفقدون معيار الهـدى ، حتى يقيموا به أنفسهم وأعمالهم ، وإنما يعبدون ذواتهم وأهواءهم . ولذلك فإن أعمالهم تزين لهم ، وهذا سبب طغيانهم وعملهم . يقول اللـه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } ( النمل /4).
4
- من أسباب العمى و العمه ؛أمن الفتنة وهي الابتلاء والاختبار،فقد يختبرك الله بالفقر وضيق العيش ليبين لك مدى رضاك بما قدره الله ومدى عبوديتك لله،وقد يختبرك بالغنى والقوة والمنصب والجاه ، ليظهر لك أتستخدمه في مساعدة الآخرين ونصرة الإسلام،أم ستسخدمه في إلحاق الضرر بالآخرين و محاربة الإسلام ومن يمثلهم من حركات وجماعات وأشخاص،فهل ستنجح في هذا الاختبار أم لا ،أما الذين يحسبون أنهم لا يفتنون فسيسقطون في الفتنة من حيث لا يشعرون ،لأنهم لا يحذرون مكر اللـه ولا فتنة الدنيا وشهواتها، فيصمون سمعهم وتعمى أبصارهم. يقـول اللـه تعالى:{ وَحَسِبُوا ألا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا}(المائدة/71). فتنبه لذلك.
5
- من أسباب العمى و العمه ؛منهم الذين يسقطون في الفتنة ،ثم يتوب اللـه عليهم ، ولكنهم - بعد التوبة - يعودون إلى العمى عمى القلب والبصيرة، فيحاربون الإسلام وشريعته، ويقفون مع أعداء الإسلام من الغرب والصهاينة،وهذا ما نراه في أيامنا. قال اللـه العزيزالجبار : { ثُمَّ تَابَ اللـه عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللـه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } (المائدة/71).
6
- الاستهزاء بآيات اللـه وبرسالاته ، يستوجب غضب اللـه ، حيث يسلب نوره من المستهزئين ويتركهم في طغيان العمه.وهذا الاستهزاء تارة يكون بالأقوال وتارة بالكتابة وتارة بالرسوم والأفلام وانتاج الفيديوهات، وتارة بالأفعال،وهذا الاستهزاء لا يضير الاسلام ولا رسولله إنما يرتد على المستهزئين بمزيد من التحير والتخبط ومزيد من البعد عن الحق والحقيقة، وكثيرا ما تكون نهاية المستهزئ وعقباه أليم، كما حصل مع المستهزئين برسول الله وكما حصل مع القس الذي أحرق نسخ القرآن قبل سنوات، وهو الآن يبيع البطاطس في إحدى المطاعم، فنزل من مرتبة عليا إلى مرتبة دنيا، قال اللـه الجبار : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءامَنُوْا قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللـه يَسْتَهْزِىِءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (البقرة/14-15).
7
-  الإنكار والجحود بعد رؤية الآيات والمعجزات والأدلة على أن الرسول حق والقرآن حق والإسلام دين الله ، ومن يفعل ذلك فمصيره كما قال اللـه تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (الانعام/110).
إن القلب الذي لا يؤمن بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود - بعد توجيهه إليها على هذا النحو العجيب الذي تكفل به هذا الكتاب العجيب - ولا توحي آيات الله المبثوثة في الأنفس والآفاق إليه أن يبادر إلى ربه ، ويثوب إلى كنفه . . إن هذالقلب هو قلب مقلوب . . والذي عاق هؤلاء عن الإيمان في أول الأمر ، ما الذي يُدري المسلمين الذين يقترحون إجابة طلبهم ، أن يعوقهم عن الإيمان بعد ظهور الخارقة؟ إن الله هو الذي يعلم حقيقة هذه القلوب . . وهو يذر المكذبين في طغيانهم يعمهون ، لأنه يعلم منهم أنهم يستحقون جزاء التكذيب؛ كما يعلم عنهم أنهم لا يستجيبون . . لا يستجيبون ولو نزل إليهم الملائكة كما يقترحون! ولو بعث لهم الموتى يكلمونهم - كما اقترحوا كذلك! - ولو حشر الله عليهم كل شيء في هذا الوجود يواجههم ويدعوهم إلى الإيمان! . . إنهم لا يؤمنون - إلا أن يشاء الله - والله سبحانه لا يشاء ، لأنهم هم لا يجاهدون في الله ليهديهم الله إليه . . وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أكثر الناس عن طبائع القلوب . .
إنه ليس الذي ينقص الذين يلجون في الضلال أنه لا توجد أمامهم دلائل وبراهين . . إنما الذي ينقصهم آفة في القلب ، وعطل في الفطرة ، وانطماس في الضمير . .
وإن الهدى جزاء لا يستحقه إلا الذين يتجهون إليه ، والذين يجاهدون فيه .
وهذا من عدل الله، وحكمته بعباده، فإنهم الذين جنوا على أنفسهم، وفتح لهم الباب فلم يدخلوا، وبين لهم الطريق فلم يسلكوا، فبعد ذلك إذا حرموا التوفيق، كان مناسبا لأحوالهم.
وحين تقول: أنا أقلب السلعة فهذا يعني أنك تفحصها. والحق يبلغنا هنا: أنا قلبت قلوبهم على كل لون ولن آخذ بظاهر الفؤاد، بل بلطفي وعظيم خبرتي أعلم الباطن منهم فاطمئنوا إلى أن حكمي هو الحكم الحق الناتج من تقليب لطيف خبير.
وقد يكون هنا معنى آخر، أي أن يكون التقليب لونا من التغيير؛ فمن الجائز أنهم حينما أقسموا بالله جهد أيمانهم كانوا في هذا الوقت قد اقتربوا من الإيمان ولكن قلوبهم لا تثبت على عقيدة. بل تتقلب دائما. ومادامت قلوبهم لا تثبت فأنَّى لنا بتصديقهم لحظة أن أقسموا بالله جهد أيمانهم على إعلان الإيمان إن جاءت آية؟ وهل فيهم من يملك نفسه بعد مجيء الآية أيظل أمره أم يتغير؟. لأن ربنا مقلب القلوب وما كنت تستحسنه أولا قد لا تستحسنه ثانيا. حين {ونُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} أي أن الحكم قد جاء عن خبرة وإحاطة علم {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
إن الإيمان يحتاج إلى استقبال آيات كونية بالبصر، وبعد أن تستقبل الآيات الدالة على عظمة الإِله تؤمن به ويستقر الإيمان في فؤادك. وسبحانه يوضح لنا أنه يقلب أفئدتهم وأبصارهم، هل يبصرون باعتبار واقتناع؟ أو هي رؤية سطحية لا فهم لهم فيها ولا قدرة منهم على الاستنباط؟ وهل أفئدتهم قد استقرت على الإيمان أو أن أبصارهم قاصرة وقلوبهم قاصرة؟
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام: 110]
إذن فهم لا يؤمنون ويسيرون إلى ضلالهم. فإن جاءت آية فلن يؤمنوا، وفي هذا عذر للمؤمنين في أنهم يرجون ويأملون أن تنزل آية تجعل من أقسموا جهد الإيمان أن يؤمنوا.
لماذا؟ لأن الحق قال{كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي أنهم لم يتغيروا ولذلك يصدر ضدهم الحكم {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} والطغيان هو تجاوز الحد، وهم قد تجاوزوا الحد هنا في استقبال الآيات، فقد جاءتهم آيات القرآن وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها، وعجزوا عن أن يأتوا بعشر سور، وعجزوا عن أن يأتوا بسورة، وكان يجب ألا يطغوا، وألا يتجاوزوا الحد في طلب الاقتناع بصدق الرسول.
{وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} والعمه هو التردد والحيرة، وهم في طغيانهم يترددون، لأن فيهم فطرة تستيقظ، وكفرا يلح؛ يقولون لأنفسهم: أنؤمن أو لا نؤمن؟ والفطرة التي تستيقظ فيهم تلمع كومضات البرق، وكان يجب ألا يترددوا: أو{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} في النار؛ لأن البصر لم يؤد مهمته في الاعتبار، والقلب لم يؤد في الفقه عن الله، فيجازيهم الله من جنس ما عملوا بأن يقلب أبصارهم وقلوبهم في النار.
8
من أعرض عن القرآن وترك الإيمان وحارب الإسلام واستهزئ بالشريعة ورسول الله فمصيره هو العمه في طغيانه والتخبط فيه،لأنه هو الذي جلب لنفسه هذا الأمر، وهو الذي اختار لنفسه  هذا الطريق فسلكه دون إجبار أو إلزام ،وقال اللـه تعالى :
{ مَن يُضْلِلِ اللـه فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (الأعراف/186).
ويعمهون : يتحيرون في معيشتهم وأفكارهم،ويترددون في الباطل فيختارون الباطل للوقوف بصفه، ويختارون الظالم لمساندته ضد المظلوم، فلا يهتدون سبيلا ولا طريقا.
9
- وحين يفقـد الانسان النور فإن النعم لا تزيده عن ربه الا بعدا ، لأنه يطغى بها ويعمه بدل أن يشكر ربه عليها ، ويسلم للحق . قال اللـه تعالى : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (المؤمنون/75).
10- للمنافقين المستهزئين {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}(البقرة/15).
أن هؤلاء المنافقين قوم لا حول لهم ولا قوة، ولكن الله سبحانه وتعالى، وهو القادر القوي حينما يستهزئ بهم يكون الاستهزاء أليمًا، وإذا كان المنافق، قد أظهر بلسانه ما ليس في قلبه، فإن الله سبحانه وتعالى يعامله بمثل فعله، فإذا كان له ظاهر وباطن، يعامله في ظاهر الدنيا، معاملة المسلمين، وفي الآخرة يوم تبلى السرائر يجعله في الدرك الأسفل من النار، لا يسويه بالكافر لأن ذنب المنافق أشد.
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} والاستهزاء هو السخرية، فهم يأتون يوم القيامة محاولين أن يتمسكوا بالظاهر، فيظهر الله سبحانه وتعالى لهم باطنهم. والحق سبحانه وتعالى يقول{ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1].
والهمزة هو الذي يسخر من الناس ولو بالإشارة.
يرى إنسانا مصابا بعاهة في قدمه، يمشي وهو يعرج فيحاول أن يقلده بطريقة تثير السخرية، إما بالإشارة وإما بالكلام، وهناك همز وهمزه..
الهمز الاستهزاء والسخرية من الناس، علامة عدم الإيمان، لأننا كلنا مخلوقون من إله واحد، فهذه الصفة التي سخرت فيها من إنسان أعرج مثلا، لا عمل له فيها، ولا حول له ولا قوة.. والإنسان لم يصنع نفسه، والحقيقة أنك تسخر من صنع الله، والذي يسخر من خلق الله إنسان غبي لأنه سخر من خلق الله في عيب، ولم يقدر ما تفضل الله به عليه، كما أنه سخر من عيب ولم يفطن إلى أن الحق سبحانه وتعالى قد أعطى ذلك الإنسان خصالا ومميزات ربما لم يعطها له، والله سبحانه وتعالى يقول{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ}[الحجرات: 11].
إن مجموع كل إنسان، يساوي مجموع كل إنسان آخر، وذلك هو عدل الله، فإذا كنت أحسن من إنسان في شيء فابحث عن النقص فيك. فإن استهزأت بمؤمن في شيء، فالاستهزاء غير مفصول عن صنعة الله، إذن فمن المنطق عندما قالوا:{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أن يرد الله عليهم {اللَّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي يزيدهم في هذا الطغيان، لأن المد هو أن تزيد الشيء، ولكن مرة تزيد في الشيء من ذاته، ومرة تزيد عليه من غيره، قد تأتي بخيط وتفرده إلى آخره، وقد تصله بخيط آخر، فتكون مددته من غيره، فالله يزيدهم في طغيانهم. وقوله تعالى{يعمهون} العمه يختلف عن العمى، والخلاف في الحرف الأخير، العمى عمى البصر، والعمه عمى البصيرة، ويعمهون أي يتخبطون، لأن العمه ينشأ عنه التخبط سواء التخبط الحسي، من عمى البصر، أو التخبط في القيم ومنهج الحياة من عمى البصيرة. والله تعالى يقول{فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فكأنما العمى المادي، قد لا يكون، ولكن يكون هناك عمى البصيرة، واقرأ قوله تعالى{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 125- 126].
فكأن عمى البصيرة في الدنيا، يعمي بصر الإنسان، عن رؤية آيات الله في كونه، ويعميه عن الإيمان والمنهج.
و أما {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} أي توسلوا بأسباب الضلالة وطلبوها فأعطاهم الله تعالى..
ففي لفظ يمد رمز إلى رد الإعتزال، وفي تضمّن يمد للاستمداد إيماء إلى ردّ الجبر، أي اختاروا بسوء اختيارهم واستمدوا، فأمدّهم الله تعالى وأرخى عنانهم..
وفي اضافة الطغيان إلى هم أي أن لهم فيه اختيارًا رمز إلى رد عذرهم بالمجبورية.. وفي الطغيان إشارة إلى أن ضررهم متعد استغرق المحاسن كالسيل وهدم أساس الكمالات فلم يبق إلا غثاء أحوى.
و{يعمهون}أي: يتحيرون ويترددون.
وفيه إشارة إلى أنه لامسلك لهم وليس لهم مقصود معين.

و قد ذم القرآن الكريم العمهين : " الله يستهزئ بهم و يمدهم في طغيانهم يعمهون".
ورفع الحرج عن الأعمى: " ليس على الأعمى حرج ".
وفي شعرنا حثَّ على تلافي العمه، قال بشار بن برد وكان أكمه أي : أعمى بالولادة .
شفاء العمى طول السؤال و إنما ... دوام العمى طول السكوت على الجهل
فكن سائلا عما عناك فإنما ... دعيت أخا عقل لتبحث بالعقل
وجعل المعتزلة العقل إماما جديرا بالقيادة ، قال رأس المعتزلة بشر بن المعتمر:
لله در العقل من رائد ... و صاحب في العسر و اليسر
وحاكم يقضي على غائب ... قضية الشاهد للأمر
والخلاصة:
 العمه يختلف عن العمى، والخلاف في الحرف الأخير العمى عمى البصر والعمه عمى البصيرة، ويعمهون أي يتخبطون، لأن العمه ينشأ عنه التخبط سواء التخبط الحسي، من عمى البصر، أو التخبط في القيم ومنهج الحياة من عمى البصيرة. والله تعالى يقول: { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } فكأنما العمى المادي، قد لا يكون، ولكن يكون هناك عمى البصيرة، واقرأ قوله تعالى:
{ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ}(طه: 125-126).
فكأن عمى البصيرة في الدنيا، يعمي بصر الإنسان، عن رؤية آيات الله في كونه، ويعميه عن الإيمان والمنهج..
والله أعلم.
المصادر:
-المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني.
- تفسير الشعراوي.
-  تفسير في ظلال القرآن لسيد قطب.
- كتاب من لطائف القرآن للصالح الخالدي.
-تفسير الماوردي.
- تفسير الخازن.
- اشارت الإعجاز لبديع الزمان النورسي.

Friday, January 2, 2015

إشباع الحاجات في القرآن والسنة النبوية

إشباع الحاجات في القرآن والسنة النبوية

الإسلام دين كبير في مضامينه عظيم في أحكامه، يهتم لأمور الأحياء، ويسعى لإقامة عالم ملؤه المحبة والسعادة والخير للإنسانية.

والمطلع على القرآن الكريم والسنة النبوية فإنه سيجد ذلك ماثلا أمام عينيه، ولكن التكبر من البعض يمنع عنهم نور الحقيقية ودفء المعرفة.

 ومن اهتمامات الإسلام بالإنسان هو إشباع الحاجات للإنسان وغيره من الكائنات الحية.

الرؤية الإسلامية لإشباع الحاجات الإنسانية تنطلق من الحكمة من خلق الإنسان التي حددها الله عز وجل في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)([الذاريات/56].

 ومن جملة الأمر بالعبادة لله عز وجل الأمر بالسعي في هذه الأرض لإشباع الحاجات المشروعة وفق الوسائل المشروعة.
فإذا فعلها المسلم بنية التعبد -وإن كانت إشباع حاجة خاصة- فهو مأجور لأنَّه بهذا الفعل (الذي هو إشباع حاجة مباحة وفق وسائل مباحة) يوافق شرع الله عز وجل فيستحق الثواب من الله.

ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:[وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قالوا يا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ له فيها أَجْرٌ قال أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكَانَ عليه فيها وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إذا وَضَعَهَا في الْحَلَالِ كان له أَجْرًا]".

 فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله، وكانت المباحات من صالح أعماله لصلاح قلبه ونيته"، وقد يأثم إذا لم يشبع حاجته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي].

وبعد هذا النظر في الحكمة من الخلق، ومعرفة مكانة مفهوم إشباع الحاجات المباحة في الإسلام ننظر إلى أمرٍ وتوجيهٍ آخر متفرع من الأمر العام بالعبادة، وهو التوجيه بإعمار الأرض الذي يؤخذ من قوله تعالى: (هو أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود/61]، أي: أمركم بعمارتها من بناء المساكن وحفر الأنهار وغرس الأشجار وغيرها، فينتج أنَّ مسألة تحديد الحاجات وترتيبها ترتبط بفكرة عمارة الأرض؛ فالإسلام يقرن اعترافه بالحاجات بإنماء الطاقات اللازمة بعمارة الأرض، كما يُرتِّبها حسب درجة إلحاحها من هذه الناحية.

والاعتراف بالحاجة في الإسلام يقوم على شرطين:
الأول: هو أنْ تكون الحاجات انعكاسًا صادقًا لظروف المجتمع.
 والثاني: أنْ يكون تعبيرُ الأفراد عن حاجتهم مؤديٍا إلى إنماء المجتمع. وهذا يؤدي إلى إبعاد أي إسراف في استخدام موارد الإنتاج.

ولذا يكون التعريف للحاجات الموافق لما قدمناه هو أنَّ الحاجة "عبارة عن مطلب للإنسان تجاه الموارد المتاحة له يؤدي تحقيقه إلى إنماء طاقته اللازمة لعمارة الأرض".
وفي هذا التعريف الاعتراف بالحاجة بناءً على أنْ إشباعها يحقق إنماء طاقات المجتمع، فلا يصدق عليها وصف الحاجة إن لم يتحقق فيها ذلك.

وأغلب العلماء يسير ترتيب الحاجات في الاقتصاد الإسلامي على سير علماء الأصول والمقاصد في ترتيب المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية وعلى رأسهم الغزالي والشاطبي  كالتالي:

أولا: الضروريات: وتقوم على حفظ أمور خمسة جاءت الشريعة بحفظها، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

ثانياً: المصالح الحاجيَّةَ: وهي التي يحتاجها الناس لتأمين معاشهم بيسر وسهولة ، وحيث لم تتحقق واحدة منها أصاب الناس مشقة وعسر.

وثالثاً: المصالح التحسينية: وهي الأمور التي يقتضيها الأدب والمروءة ، ولا يصيب الناس بفقدها حرج ولا مشقة ، ولكن الكمال والفطرة يجدان فقدها.
وأمَّا ابن خلدون فقد سماها حاجات الناس، وجعلها: ضروري وحاجي وكمالي.

والتكييف الإسلامي للحاجات وترتيب الحاجات بناء على درجة إنماءها لهذه الطاقات، يؤدي إلى توجيه النشاط الاقتصادي إلى تلك المجالات التي تلزم لإشباع الحاجات الحقيقية له.
 فمن خلال قصر استخدام الأفراد أو الدولة للموارد المتاحة على إشباع هذه الحاجات يصبح هيكل الناتج القومي، وبالتالي هيكل النمو الاقتصادي متطابقاً مع هيكل الحاجات الحقيقية للمجتمع، الأمر الذي يُمكِّن من إشباع قدر أكبر من حاجاته من نفس القدر المتاح من موارد الإنتاج.

وهو كذلك يؤدي إلى رفع معدل النمو الاقتصادي للمجتمع من خلال إنماء الموارد المتاحة ومنها مورد العمل، فيزيد عدد القادرين على العمل.

كما أنَّ منعه للاستهلاك الترفي مع زيادة الدخل بسبب رفع إنتاجية العمل يؤدي إلى زيادة الادخار التي عادة تتحول إلى استثمارات ومشاريع إنتاجية، تزيد القدرة الإشباعية للناتج القومي التي تعني زيادة قدرة موارد الإنتاج المتاحة للمجتمع على إشباع قدر أكبر من حاجاته، وتعني إنماء طاقاته بشكل أفضل، وتحقيق معدل أعلى للنمو الاقتصادي.

وعدم التعارض بين إشباع الحاجات وزيادة النمو الاقتصادي يؤكده ما ذهبت إليه دراسة تطبيقية على عينة مكونة من تسعة عشر دولة من أعضاء منظمة مؤتمر العالم الإسلامي، ووصلت فيها إلى نتيجة عدم وجود تضارب بين النمو الاقتصادي السريع وهدف تلبية الاحتياجات الأساسية .

 كما أنَّ إشباع الحاجات الأساسية للأجيال الصاعدة وفق هذا التصور يعني استمرار الحياة البشرية، وظهور الجيل الذي يبذل الجهد الفكري والبدني، ويقدم التضحيات اللازمة لتحقيق أقصى كفاءة في استغلال خيرات الكون وعمارته، وصولاً إلى تخليص الأمة وتحقيق استقلالها الحضاري.

وهناك وقفة مهمة في النظام الاقتصادي الإسلامي في هذا الجانب، وهي أنَّ مسألة إشباع الحاجات ليست حكراً على الدولة، وإنما تبدأ من الفرد نفسه كعضو في أسرة اجتماعية، ثم ما هو أوسع من الأسرة ألا وهي العاقلة والقبيلة، ثم مشاركة بقية المجتمع بواجب الأخوة الإسلامية والأخوة الإنسانية.

بل وصلت مسألة وجوب إشباع الحاجات الأساسية أن تعدت دائرة الإنسانية إلى دائرة أوسع، وهي دائرة بقية المخلوقات حتى وصل أثرها إلى إشباع حاجات الجن والحيوانات.
ففي حق الجن ما جاء من النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث كما قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [لَا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ ولا بِالْعِظَامِ فإنه زَادُ إِخْوَانِكُمْ من الْجِنِّ] .
 وأمَّا الحيوان فقد رَتَّبَ على إشباع حاجته غفران الذنوب، ودخول الجنة كما جاء أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: [بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عليه الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فيها فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فإذا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى من الْعَطَشِ، فقال الرَّجُلُ: لقد بَلَغَ هذا الْكَلْبَ من الْعَطَشِ مِثْلُ الذي كان بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حتى رقى فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ الله له فَغَفَرَ له. قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لنا في هذه الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا، فقال: في كل كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ]، وفي رواية [فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ] .
 وفي المقابل رتبَّ استحقاق النار لمن منع الحيوان من إشباع حاجته من الطعام والشراب فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فلم تُطْعِمْهَا ولم تَدَعْهَا تَأْكُلُ من خَشَاشِ الأرض].
ويُلاحظ أن المستفيدين من عملية إعادة التوزيع في الاقتصاد الإسلامي يغلب عليهم مسمى الحاجة، وخاصة في مرحلة توفير حد الكفاف وحد الكفاية. وينقسمون إلى فئتين:

1- فئة يتميز أفرادها بالعجز والفاقة، ومنهم الفقراء والمساكين والمرضى والمقعدين والمكفوفين وكبار السن والمحتاجين واللقطاء.

2- فئة قد لا يتصف أفرادها بالفقر أو العجز، ولكنهم يحتاجون إلى المساعدة، ومنهم المدين والغارم، والقاتل خطأً، وأيضًا الأسرى وذوي القربى والجار والضيف، ومن شُرِعَ الإنفاق عليهم في حالات المجاعات والقحط والكوارث العامة كالزلازل والفيضانات والحرائق، أو في الإعانات العائلية كمساعدة الزواج، وعلاوات الأولاد.

والله أعلم
المراجع:
- صحيح البخاري،صحيح مسلم،  وصحيح ابن حبان و سنن الترمذي.
- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، دار الآفاق الجديدة - بيروت، ط 1، 1403 هـ / 1983م.
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، مكتبة العبيكان - الرياض، ط 1، 1418هـ- 1998م، تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمد عوض.
- المستصفى في علم الأصول، أبو حامد محمد الغزالي ، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1413، تحقيق: محمد عبد السلام.
- الموافقات في أصول الفقه، إبراهيم بن موسى الشاطبي، دار المعرفة - بيروت، ط 2، 1416هـ- 1996م، تحقيق: عبد الله دراز.
 - إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، محمد بن علي الشوكاني، دارالفكر–بيروت، ط1، 1412 - 1992، تحقيق: محمد البدري.
- مفهوم الحاجات الأساسية ومستوى الدخل في الدولة الإسلامية، عبد المحمود محمد، مجلة جامعة الملك عبدالعزيز، جدة، الاقتصاد الإسلامي، مجلد 13، 1421هـ-2001م.

- الموارد المالية في الإسلام، أحمد المزيني، ذات السلاسل- الكويت، ط 1، 1414هـ- 1994م.