Friday, January 2, 2015

إشباع الحاجات في القرآن والسنة النبوية

إشباع الحاجات في القرآن والسنة النبوية

الإسلام دين كبير في مضامينه عظيم في أحكامه، يهتم لأمور الأحياء، ويسعى لإقامة عالم ملؤه المحبة والسعادة والخير للإنسانية.

والمطلع على القرآن الكريم والسنة النبوية فإنه سيجد ذلك ماثلا أمام عينيه، ولكن التكبر من البعض يمنع عنهم نور الحقيقية ودفء المعرفة.

 ومن اهتمامات الإسلام بالإنسان هو إشباع الحاجات للإنسان وغيره من الكائنات الحية.

الرؤية الإسلامية لإشباع الحاجات الإنسانية تنطلق من الحكمة من خلق الإنسان التي حددها الله عز وجل في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)([الذاريات/56].

 ومن جملة الأمر بالعبادة لله عز وجل الأمر بالسعي في هذه الأرض لإشباع الحاجات المشروعة وفق الوسائل المشروعة.
فإذا فعلها المسلم بنية التعبد -وإن كانت إشباع حاجة خاصة- فهو مأجور لأنَّه بهذا الفعل (الذي هو إشباع حاجة مباحة وفق وسائل مباحة) يوافق شرع الله عز وجل فيستحق الثواب من الله.

ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:[وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قالوا يا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ له فيها أَجْرٌ قال أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكَانَ عليه فيها وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إذا وَضَعَهَا في الْحَلَالِ كان له أَجْرًا]".

 فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله، وكانت المباحات من صالح أعماله لصلاح قلبه ونيته"، وقد يأثم إذا لم يشبع حاجته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي].

وبعد هذا النظر في الحكمة من الخلق، ومعرفة مكانة مفهوم إشباع الحاجات المباحة في الإسلام ننظر إلى أمرٍ وتوجيهٍ آخر متفرع من الأمر العام بالعبادة، وهو التوجيه بإعمار الأرض الذي يؤخذ من قوله تعالى: (هو أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود/61]، أي: أمركم بعمارتها من بناء المساكن وحفر الأنهار وغرس الأشجار وغيرها، فينتج أنَّ مسألة تحديد الحاجات وترتيبها ترتبط بفكرة عمارة الأرض؛ فالإسلام يقرن اعترافه بالحاجات بإنماء الطاقات اللازمة بعمارة الأرض، كما يُرتِّبها حسب درجة إلحاحها من هذه الناحية.

والاعتراف بالحاجة في الإسلام يقوم على شرطين:
الأول: هو أنْ تكون الحاجات انعكاسًا صادقًا لظروف المجتمع.
 والثاني: أنْ يكون تعبيرُ الأفراد عن حاجتهم مؤديٍا إلى إنماء المجتمع. وهذا يؤدي إلى إبعاد أي إسراف في استخدام موارد الإنتاج.

ولذا يكون التعريف للحاجات الموافق لما قدمناه هو أنَّ الحاجة "عبارة عن مطلب للإنسان تجاه الموارد المتاحة له يؤدي تحقيقه إلى إنماء طاقته اللازمة لعمارة الأرض".
وفي هذا التعريف الاعتراف بالحاجة بناءً على أنْ إشباعها يحقق إنماء طاقات المجتمع، فلا يصدق عليها وصف الحاجة إن لم يتحقق فيها ذلك.

وأغلب العلماء يسير ترتيب الحاجات في الاقتصاد الإسلامي على سير علماء الأصول والمقاصد في ترتيب المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية وعلى رأسهم الغزالي والشاطبي  كالتالي:

أولا: الضروريات: وتقوم على حفظ أمور خمسة جاءت الشريعة بحفظها، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

ثانياً: المصالح الحاجيَّةَ: وهي التي يحتاجها الناس لتأمين معاشهم بيسر وسهولة ، وحيث لم تتحقق واحدة منها أصاب الناس مشقة وعسر.

وثالثاً: المصالح التحسينية: وهي الأمور التي يقتضيها الأدب والمروءة ، ولا يصيب الناس بفقدها حرج ولا مشقة ، ولكن الكمال والفطرة يجدان فقدها.
وأمَّا ابن خلدون فقد سماها حاجات الناس، وجعلها: ضروري وحاجي وكمالي.

والتكييف الإسلامي للحاجات وترتيب الحاجات بناء على درجة إنماءها لهذه الطاقات، يؤدي إلى توجيه النشاط الاقتصادي إلى تلك المجالات التي تلزم لإشباع الحاجات الحقيقية له.
 فمن خلال قصر استخدام الأفراد أو الدولة للموارد المتاحة على إشباع هذه الحاجات يصبح هيكل الناتج القومي، وبالتالي هيكل النمو الاقتصادي متطابقاً مع هيكل الحاجات الحقيقية للمجتمع، الأمر الذي يُمكِّن من إشباع قدر أكبر من حاجاته من نفس القدر المتاح من موارد الإنتاج.

وهو كذلك يؤدي إلى رفع معدل النمو الاقتصادي للمجتمع من خلال إنماء الموارد المتاحة ومنها مورد العمل، فيزيد عدد القادرين على العمل.

كما أنَّ منعه للاستهلاك الترفي مع زيادة الدخل بسبب رفع إنتاجية العمل يؤدي إلى زيادة الادخار التي عادة تتحول إلى استثمارات ومشاريع إنتاجية، تزيد القدرة الإشباعية للناتج القومي التي تعني زيادة قدرة موارد الإنتاج المتاحة للمجتمع على إشباع قدر أكبر من حاجاته، وتعني إنماء طاقاته بشكل أفضل، وتحقيق معدل أعلى للنمو الاقتصادي.

وعدم التعارض بين إشباع الحاجات وزيادة النمو الاقتصادي يؤكده ما ذهبت إليه دراسة تطبيقية على عينة مكونة من تسعة عشر دولة من أعضاء منظمة مؤتمر العالم الإسلامي، ووصلت فيها إلى نتيجة عدم وجود تضارب بين النمو الاقتصادي السريع وهدف تلبية الاحتياجات الأساسية .

 كما أنَّ إشباع الحاجات الأساسية للأجيال الصاعدة وفق هذا التصور يعني استمرار الحياة البشرية، وظهور الجيل الذي يبذل الجهد الفكري والبدني، ويقدم التضحيات اللازمة لتحقيق أقصى كفاءة في استغلال خيرات الكون وعمارته، وصولاً إلى تخليص الأمة وتحقيق استقلالها الحضاري.

وهناك وقفة مهمة في النظام الاقتصادي الإسلامي في هذا الجانب، وهي أنَّ مسألة إشباع الحاجات ليست حكراً على الدولة، وإنما تبدأ من الفرد نفسه كعضو في أسرة اجتماعية، ثم ما هو أوسع من الأسرة ألا وهي العاقلة والقبيلة، ثم مشاركة بقية المجتمع بواجب الأخوة الإسلامية والأخوة الإنسانية.

بل وصلت مسألة وجوب إشباع الحاجات الأساسية أن تعدت دائرة الإنسانية إلى دائرة أوسع، وهي دائرة بقية المخلوقات حتى وصل أثرها إلى إشباع حاجات الجن والحيوانات.
ففي حق الجن ما جاء من النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث كما قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [لَا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ ولا بِالْعِظَامِ فإنه زَادُ إِخْوَانِكُمْ من الْجِنِّ] .
 وأمَّا الحيوان فقد رَتَّبَ على إشباع حاجته غفران الذنوب، ودخول الجنة كما جاء أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: [بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عليه الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فيها فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فإذا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى من الْعَطَشِ، فقال الرَّجُلُ: لقد بَلَغَ هذا الْكَلْبَ من الْعَطَشِ مِثْلُ الذي كان بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حتى رقى فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ الله له فَغَفَرَ له. قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لنا في هذه الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا، فقال: في كل كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ]، وفي رواية [فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ] .
 وفي المقابل رتبَّ استحقاق النار لمن منع الحيوان من إشباع حاجته من الطعام والشراب فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فلم تُطْعِمْهَا ولم تَدَعْهَا تَأْكُلُ من خَشَاشِ الأرض].
ويُلاحظ أن المستفيدين من عملية إعادة التوزيع في الاقتصاد الإسلامي يغلب عليهم مسمى الحاجة، وخاصة في مرحلة توفير حد الكفاف وحد الكفاية. وينقسمون إلى فئتين:

1- فئة يتميز أفرادها بالعجز والفاقة، ومنهم الفقراء والمساكين والمرضى والمقعدين والمكفوفين وكبار السن والمحتاجين واللقطاء.

2- فئة قد لا يتصف أفرادها بالفقر أو العجز، ولكنهم يحتاجون إلى المساعدة، ومنهم المدين والغارم، والقاتل خطأً، وأيضًا الأسرى وذوي القربى والجار والضيف، ومن شُرِعَ الإنفاق عليهم في حالات المجاعات والقحط والكوارث العامة كالزلازل والفيضانات والحرائق، أو في الإعانات العائلية كمساعدة الزواج، وعلاوات الأولاد.

والله أعلم
المراجع:
- صحيح البخاري،صحيح مسلم،  وصحيح ابن حبان و سنن الترمذي.
- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، دار الآفاق الجديدة - بيروت، ط 1، 1403 هـ / 1983م.
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، مكتبة العبيكان - الرياض، ط 1، 1418هـ- 1998م، تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمد عوض.
- المستصفى في علم الأصول، أبو حامد محمد الغزالي ، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1413، تحقيق: محمد عبد السلام.
- الموافقات في أصول الفقه، إبراهيم بن موسى الشاطبي، دار المعرفة - بيروت، ط 2، 1416هـ- 1996م، تحقيق: عبد الله دراز.
 - إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، محمد بن علي الشوكاني، دارالفكر–بيروت، ط1، 1412 - 1992، تحقيق: محمد البدري.
- مفهوم الحاجات الأساسية ومستوى الدخل في الدولة الإسلامية، عبد المحمود محمد، مجلة جامعة الملك عبدالعزيز، جدة، الاقتصاد الإسلامي، مجلد 13، 1421هـ-2001م.

- الموارد المالية في الإسلام، أحمد المزيني، ذات السلاسل- الكويت، ط 1، 1414هـ- 1994م.

No comments :

Post a Comment