Sunday, March 15, 2015

الأسرار والحكم في تحديد الصيام بصوم شهر رمضان في السنة

الأسرار والحكم في تحديد الصيام بشهر رمضان في السنة:

لا يخفى على أي مسلم وعالم من أي دين، ما للصيام من حكم وأسرار وفوائد طبية ونفسية واجتماعية وروحية وجسمية وجسدية .
وإن دلَّ هذا فإنه يدل على أن أوامر الله لبني البشر هي لمصلحتهم والله غني عنهم؛كما أن النواهي والمنهيات هي لمصلحتهم والله غني عنهم.
والمتعصبون من أذناب العلمانية ودعاة الانحلال يذهبون بعيدا وعميقا في التنقيص من الإسلام والاستهزاء به والتشهير به والسخرية من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ،ويحسبون أنهم على شيء، وما هم إلا أفاعي تنفث سموما وتغير جلودها من حين لآخر، تبعاً للظرف الذي فيه.
والمسلم الحق لا ينخدع بهم ولا بأمثالهم، فيكون ثابت الإيمان راسخ العقيدة صلبَ الافتخار بدينه وبنبيه وبالقرآن الكريم الذي جاء هدى ونورا وبشرى، ومراعيا لفطرة الناس وموافقا لما جُبلَ عليه الإنسان.

ومن هذا الأمر بالصيام وتخصيصه بشهر رمضان.

إن عبادة الصوم هي المؤشر الحقيقي على ضبط النفس، وكبح جماحها، والتغلّب على شهواتها.
وقد جاء القرآن الكريم بتعيين المدة الزمنية أو الأيام التي يجب فيها الصيام، وذلك في نصين كريمين، هما:

1- قـوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ…).
ومعنى معدودات: أي مؤَقَّتات بعدد معلوم. وهذا العدد المعلوم تحديداً هو شهر رمضان، والذي يدل عليه النص الثاني وهو:

2- قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
فهذا الجزء المعروف من السَّنة القمرية بشهر رمضان، هو الذي جُعل زمناً لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين، فكلما حان وقت هذا الشهر من السَّنة، فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه.
ومن جهةٍ أخرى فقد حدد القرآن الكريم، الزمن الذي يبدأ فيه الصوم وينتهي، بالنسبة لليوم الواحد من أيام رمضان، ويظهر ذلك جلياً في قوله تعالى:
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون).
فقـوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) فيه بيانُ أن الليل كله ظرفٌ للمفطرات التي منها الرَّفث؛ أي الجماع.
وقوله(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ) فيه بيانُ جواز الأكل والشرب طوال الليل، وبدء الصوم هو أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود؛ أي تولّي الليل ومجيء النهار.
وقوله (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) بيانٌ لانتهاء وقت الصوم.
كما جاء هذا التحديد في نصوص من السنة النبوية، ومنها:
ما روته عائشة رضي الله عنها، أنَّ بلالاً كان يؤذن بليل، فقال صلى الله عليه وسلم :«كلوا واشربوا حتى يُؤذِّن ابن أمّ مكتوم، فإنه لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر».  
قال العيني: "يُستفاد من هذا الباب أن الصائم لـه أن يأكل ويشرب إلى طلوع الفجر الصادق، فإذا طلع الفجر الصادق كَفّ، وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين".
وفيما يتعلق بوقت انتهاء الإمساك، يدلّ عليه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : «إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم».
أما الأسرار والحكم التي وقفتُ عليها في توقيت فرضية الصوم على هذا النحو، فهي كالآتي:

1-في تحديد الصوم، وتعيين زمنه، وعدم تركه مفتوحاً، من  الحكمة مالا يخفى.
ذلك أن بعض الأديان والشرائع القديمة، تجرّدت عن تعيين أيام الصوم، وتحديدها بالبداية والنهاية، فكان الأمر بالخيار، وكان الناس في كثيرٍ من الأديان مخيَّرين في الأيام التي يصومونها، وفي تحديدها. فكانت النتيجة؛ أن ذلك جنى على الصوم وضيّعه وأضعف قوَّته، فكان للإنسان أن يصوم متى شاء، وما شاء، والأمر موكولٌ إليه، فتطرّق الوَهَن، وتسربت الخيانة إلى النفوس، وتخطّى الناس الحدود وصعبت المحاسبة، فربّ مفطر إذا حوسب تعلل بأنه قد صام فيما مضى.
وإلى هذه الحكمة الدقيقة في التحديد والتعيين، يشير الشيخ ولي الله الدهلوي بقوله:
"وإذا وقع التصدّي لتشريع عام، وإصلاح جماهير الناس، وطوائف العرب والعجم، وجب أن لا يُخيَّر في ذلك الشهر ليختار كل واحدٍ شهراً يسهل عليه صومه، لأن في ذلك فتحاً لباب الاعتذار والتسلل، وسداً لباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإهمالاً لما هو من أعظم طاعات الإسلام".
ثم يقول وهو يذكر الحاجة إلى تعيين المقدار:
" ثم وجب تعيين مقداره، لئلا يفرّط أحدٌ فيستعمل منه مالا ينفعه وينجع فيه، أو يفرط مفرط فيستعمل منه ما يوهن أركانه، ويُذهب نشاطه ويُنَفِّه نفْسه- التنفيه: الإتعاب والإعياء -، ويُزيره القبور، وإنما الصوم ترياق يُستعمل لدفع السموم النفسانية، مع ما فيه نكاية بمطيّة اللطيفة الإنسانية ومنصتها، فلا بدّ من أن يتقدر بقدر الضرورة".
2-في ارتباط فريضة الصوم بشهر واحد في العام أكبر الأثر في تضامن المسلمين ووحدتهم.
قال المودودي: إن«الله تعالى لم يفترض الصيام على المسلمين جميعاً إلا في شهرٍ واحد بعينه، ليصوموا جميعاً لا متفرِّقين.
وفي ذلك أيضاً كثير من المنافع، فإذا جاء شهر رمضان، أظل المجتمع المسلم كله جو من الطهارة والنظافة والإيمان وخشية الله وطاعة أحكامه ودماثة الأخلاق وحسن الأعمال، وكسدت سوق المنكرات، وعم انتشار الخيرات والحسنات، وبدأ الصالحون من عباد الله يتعاونون فيما بينهم على أعمال البر والإحسان، وبدأ يعتري الأشرار الخجل من اقتراف المنكرات، ونشأت في الأغنياء عاطفة المساعدة لإخوانهم الفقراء والمساكين، وبدءوا ينفقون أموالهم في سبيل الله، وأصبح المسلمون جميعاً في حالة متماثلة، وكل ذلك يكون فيهم الشعور العام بأنهم جميعاً جماعة واحدة. وتلك وسيلة ناجعة لتنشأ فيهم عاطفة التحاب والإخاء والمواساة والتعاون والوحدة».
3-في وصفه سبحانه لأيام رمضان بأنها (أياماً معدودات) ما يشير إلى قِلّة هذه الأيام، والتي تشكّل شهراً واحداً في العام، الأمر الذي يخفف وقع التكليف بالصيام على النفوس "وفي هذا تذكير للناس برحمة الله تعالى، وتيسير شرعه، لأنه لو شاء أن يفرض عليهم صوم العام كله أو معظمه لفعل، ولكنه تعالى من رحمته اكتفى منهم بالقليل".
4-أما الحكمة من تخصيص الصوم بشهر رمضان، فقد نطق بها القرآن الكريم. قال تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) فهو الشهر الذي شرفه الله بنـزول القرآن، وأُفيضت فيه على البشرية هداية الرحمن .
ويدل هذا التخصيص على "أنّ بين الصوم وبين نزول القرآن مناسبة عظيمة، فلما كان هذا الشهر مختصاً بنـزول القرآن، وجب أن يكون مختصاً بالصوم".
ومن مظاهر هذه الصلة المتينة بين رمضان والقرآن، ما ورد من مُدارسة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم مع جبريل – عليه السلام- في كل يوم من أيام هذا الشهر الفضيل.
يقول الشيخ أحمد السرهندي في إحدى رسائله عن العلاقة بين رمضان والقرآن: "إنَّ لهذا الشهر مناسبة تامّة بالقرآن، وبهذه المناسبة، كان نزوله فيه".
فكان تخصيص هذا الشهر بفرضية الصيام ، تذكير للمسلمين بنعمته تعالى بإنزال القرآن الكريم عليهم، حيث اقتضت حكمته تعالى" أنّ وقت أداء الطاعة، هو الوقت الذي يكون مذكراً بنعمة من نعم الله تعالى، مثل يوم عاشوراء، نصر الله تعالى فيه موسى – عليه السلام- على فرعون فصامه، وأمر بصيامه، وكرمضان؛ نزل فيه القرآن، وكان ذلك ابتداء ظهور الملة الإسلامية".

5-أمَّا السر في التحديد الزمني لهذا الصيام من طلوع الشمس إلى غروبها، والامتناع إبّان هذه الفترة عن تناول المفطرات، فلا يخفى ما فيه من تربيةٍ عملية للأمة الإسلامية على الانضباط والالتزام، والدقة في مراعاة الأوقات والانتباه لها.
وهو -بشكلٍ عام- أمرٌ ملحوظ في معظم التشريعات الإسلامية، التي جاءت لتنظم علاقة الإنسان مع الله ومع الناس ومع نفسه.
6-والحكمة من جعل شهر رمضان شهراً قمرياً، تظهر من وجهين:
أ-"لسهولة ضبط بدئه ونهايته، برؤية الهلال والتقدير".
ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل شكل القمر متغيراً، بحسب الزمن الذي يمضي من الشهر، مما يسهّل معرفة أوائل الشهور، وأنصافها، وأواخرها.
ب-ثم إنَّ كون رمضان شهراً قمرياً، يجعله يدور مع العام، في جميع أوقاته، من صيف وشتاءٍ وربيع وخريف.

إن التشريعات الإلهية عظيمة القدر جليلة الشأن بالغة الأهمية، فهي توافق فطرة الإنسان وتلائم احتياجاته، وتنظم حياته، وتنير دربه.
والمتنطعون المتطرفون من أعداء الإسلام يحاربون الشريعة الإسلامية في كل مكان، وحتى بين المسلمين ولا يريدونها أن تحكم ولا أن تأخذ مكانها في الدساتير والقوانين كما هي مكانها في القلوب والأفئدة والنفوس، ذلك أنهم يتخوفون من نهضة المسلمين ورقيهم وتطورهم عندما تعانق الشريعة الإسلامية القوانين والدساتير بشريعتها السمحة الوسطى المعتدلة.
 وعلى كل مسلم أن يسعى من مكان عمله وموطنه ووظيفته إلى النهوض بالإسلام والتعريف بشريعته وتوعية الآخرين بها من المسلمين أو غير المسلمين بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بهدوء واتزان وعدم فوضى أو ضجيج.
والله أعلم.

المصادر:
- الزمخشري، الكشاف.
- البخاري، الجامع الصحيح.
- صديق حسن خان القنوجي، أبجد العلوم، تحقيق عبد الجبار زكار، د.ر (دار الكتب العلمية: بيروت، 1978م).
-بدر الدين العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري (دار المعرفة: بيروت).
- أبو الحسن الندوي، الأركان الأربعة: الصلاة- الزكاة – الصوم- الحج، في ضوء الكتاب والسنة، ط2 (دار الفتح: بيروت، 1388هـ/1968م).
- الدهلوي، حجة الله البالغة.
- لسان العرب، د.ر (دار صادر: بيروت: د.ت)، مادة ( نَفَهَ).
-المودودي، مبادئ الإسلام.
- عبد العزيز موسى، التفسير الموضوعي لآيات الصوم في القرآن الكريم، ط1 (دار الطباعة المحمدية: القاهرة، 1414هـ/1994م).
-الرازي، التفسير الكبير.
- عبد الحي الحَسني، نزهة الخواطر.
 -مجموعة رسائل الإمام السرهندي .
-محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير،(الدار التونسية للنشر: تونس، 1984م).

No comments :

Post a Comment