الأسرار والحكم في تحديد وقت الزكاة بدوران الحول:
لا ريب أن الشريعة الاسلامية شريعة
عملية تطبيقية في واقع المسلم، تكفي حاجاته وتحقق احتياجاته الجسددية والروحية
والعقلية والمعاشية.
ولطالما كانت الشريعة
الإسللامية جسراللعبور للأحسن وللأفضل وللأصلح، ويشهد على هذا أحكامها وأوامرها
ونواهيها فكلها تصب في مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع ومصلحة البشرية.
وحينما طبقها المسلمون
سعدوا ونالوا نجاحات كبى في كافة الجوانب السياسية والعسكرية والمالية والعلمية
والحضارية وغيرها.
والزكاة هي الأساس
العملي للجانب المالي في العبادة، فالمال مال الله والإنسان مستخلف فيه، وعليه أنْ
يأخذه بالطريق الذي حدده الله، وينفقه بالأسلوب الذي حدده الله، وما لم يستسلم
الإنسان لله بالزكاة فلن يستسلم له في بقية جوانب جمع المال وإنفاقه.
وقد حدد الشرع القويم الزمن الذي تجب
فيه الزكاة، وبيّن أنها تجب في المال إذا حال عليه الحول، وفي ذلك يقول المصطفى صلى
الله عليه وسلم: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول».
وإن كان هذا الحديث قد تُكلَّم فيه إلا
أن اشتراط الحول هو قول جمهور الفقهاء، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة، ولانتشاره
في الصحابة رضي الله عنهم، ولانتشار العمل به، ولاعتقادهم أنَّ مثل هذا الانتشار
من غير خلاف لا يجوز أن يكون إلا عن توقيف.
وبالنظر في المدّة الزمنية
التي جُعلت الزكاة مرتبطة بها- وهي دوران الحول- يظهر في ذلك حكمة ربانية، وسرٌّ
إلهي:
1-ذلك أن هذه المدّة التي
عينها الشرع، ليست بالقصيرة، بحيث يَسرُع دورانها، فيتعسر أداء الزكاة فيها. وليست
بالطويلة، بحيث لا تردع البخيل، ولا تسدّ حاجة الفقير. وإنما هي مدة معقولة، رُوعي
فيها النظر إلى صاحب المال الذي يحرص على ماله، وإلى الفقير الذي ينتظر ما يسدّ
رمقه.
فكان من رحمة الله تعالى
أن جُعل أمد زكاة الأموال عاماً، لدوران مواسم الإنتاج والأثمار فيه، ولا سيّما إنتاج الطبيعة، والذي
يرتبط به جزء كبير من الإنتاج الصناعي. وكذلك جُعل أمدها عاماً لتكون لذوي الأموال
فرصة التنمية وتحقق الربح أو الخسارة، أمّا إذا فرضت زكاة المال عند بداية الحصول عليه،
فإنَّ ذلك يكون إرهاقاً وظلماً، ولجواز فقدانه أو فقدان جزء منه في حاجات الضرورة
أو الخسائر التي تحلّ به عند المداولة والعمل في أثناء العام.
ويبين ابن القيم أن السرّ في هذا التوقيت الزمني للزكاة هو
مصلحة الجميع، فيقول:
"إذ وجوبها
كل شهر أو كل جمعة يضر بأرباب الأموال، ووجوبها في العمر مرة يضر بالمساكين، فلم
يكن أعدل من وجوبها كل عام مرة".
2-لم يرد في القرآن الكريم
شيء عن اشتراط الحول، أمَّا ما ورد فيه فهو بيان وقت زكاة الزروع والثمار،
وذلك في قوله تعالى: }وَهوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ
مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا
أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ{.
وحدد
القرآن الكريم في ذلك، الزمن الذي تجب فيه زكاة الزروع والثمار وهو" يوم حصاده".
والسرّ في تحديد يوم الحصاد
لتأدية الزكاة فيه- مع أن ذلك متعذر، لأن الحَبّ يكون في سنبله- هو الدلالة على
تعلق حق الزكاة به في ذلك الزمن. وإذا كان ذلك كذلك، يكون المعنى: "واعزموا على إيتاء الحق، واقصدوه، واهتموا به، يوم الحصاد،
حتى لا تؤخروه عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء".
وقيل: الحكمة في ذكر وقت الحصاد، إنما هي التخفيف على أصحاب الزروع، وذلك حتى لا يُحسب عليهم
ما أكلوا من زرعهم قبل يوم الحصاد، فيكون ذلك موقعاً لهم في الحرج.
ويُلحظ هنا أن إيجاب الزكاة في الزروع
والثمار، كان بمجرد الحصاد، ولم يشترط فيها حَوَلان الحول كباقي الأموال، وأما السر في ذلك فهو:
"أنَّ ما أعتُبر لـه الحول مُرصَد للنماء، فالماشية، مُرصَدة للدرّ والنَّسل،
وعروض التجارة مرصدة للربح، وكذا الأثمان، فاعتُبر
لـه الحول، لأنه مظنة النماء، ليكون إخراج الزكاة من الربح، فإنه أسهل وأيسر، ولأن
الزكاة إنما وجبت مواساة.
ولم تُعتبر حقيقة
النماء، لكثرة اختلافه، وعدم ضبطه،
ولأن ما اعتُبرت مظنته لم يُلتفت إلى حقيقته، كالحُكْم مع الأسباب، ولأن الزكاة
تتكرر في هذه الأموال، فلا بدّ لها من ضابط، كي لا يُفضي إلى تعاقب الوجوب في
الزمن الواحد مرّات، فينفد مال المالك.
أما الزروع والثمار فهي
نماء في نفسها، تتكامل عند إخراج الزكاة منها،
فتؤخذ الزكاة منها حينئذٍ، ثم تعود في النقص لا في النماء، فلا تجب فيها زكاة
ثانية، لعدم إرصادها للنماء، والخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض، بمنـزلة
الزرع والثمر".
إن الشريعة الإسلامية شريعة ربانية
إلهية، حددها الله خالق الإنسان العالم به الخبير بما يصلح له.
وهي شريعة واقعية عملية قابلة للتطبيق،
ويؤتي تطبيقها الصحيح الحكيم ثمارا يانعة من التقدم والتحضر وإزالة الظلم والفساد
وإحقاق الحق ونشر العدل.
والله أعلم.
المصادر:
- محمد ابن ماجه، السنن، تحقيق: خليل
شيخا، ط1 (دار المعرفة: بيروت، 1416هـ/1996م).
- ابن حجر العسقلاني، تلخيص الحبير في
تخريج أحاديث الرافعي الكبير، تحقيق: عبد الله المدني، د.ر (د.م: د.ط، 1964م).
-محمد الترمذي، السنن، د.ر (دار إحياء
التراث العربي: بيروت، 1415هـ/1995م).
- محمد ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق: ماجد
الحموي، ط1 (دار ابن حزم: بيروت، 1416هـ/1995م.
- عبد العزيز سيد الأهل، أسرار
العبادات في الإسلام، ط2 (دار العلم للملايين: بيروت، 1981م).
-محمد بن أبي بكر، ابن القيم، زاد
المعاد في هدي خير العباد، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، ط4
(مؤسسة الرسالة: بيروت/ مكتبة المنار الإسلامية: الكويت، 1407هـ/1986م).
-د.
عودة عبد عودة عبد الله، الأسرار والحِكَم في التوقيت الزمني للعبادات الأربع في الإسلام.
-الزمخشري، تفسيرالكشاف.
- سيد طنطاوي، التفسير الوسيط للقرآن
الكريم، د.ر (دار المعارف: القاهرة، د.ت).
-عبد الله بن قدامة المقدسي، المغني،
تحقيق: عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، ط2 (دار هجر: القاهرة، 1412هـ/1992م).
مقال رائع جداً عن الثقة بالنفس ..
ReplyDeleteلا يفوتكم ⬇⬇
https://noslih.com/article/21+مهارة+لتعزز+ثقتك+بنفسك