Wednesday, November 12, 2014

البلاغة وبديع البيان في (تستطع و تسطع)و(اسطاعوا واستطاعوا)

البلاغة وبديع البيان في (تستطع و تسطع)و(اسطاعوا واستطاعوا):

يزخر القرآن الكريم بفنون بلاغية عدة ونواح أدبية كثيرة وأنواع بلاغية مختلفة، سواء من حيث الحرف أو اللفظ أو الكلمة أو الجملة أو العبارة أو الآية.

وأينما نظرت في القرآن فإنك تلقى بلاغة أدبية عالية المستوى، تأخذ بالقلب وترقى بالنفس وتطرب الروح وتشنف السمع وترهف اللحس.

وحدهم المتدبرون في آيات القرآن والمتأملون بها يشعرون بمثل هذه البلاغة التي تحضر الخشوع للقلب وتجعل من العين عينا فياضة بالدمع.

ونحن أمام فن بلاغي من نوع آخر نوع حذف حرف من الكلمة، فيه من الدلات ومن الإيماءات ما لا يخفى على متفكر متبصر عليم القلب والعقل.

مجيء (تسطع وتستطيع) ( واسطاعو وما استطاعوا):

هذه الكلمات وردت في سورة الكهف الأولى في قصة موسى مع العبد الصالح، والثانية في قصة ذي القرنين.
وكلتا القصتان مشهورتان لشهرة سورة الكهف بين المسلمين.
والمتأمل المتدبر في قراءة سورة الكهف، يلحظ أن (تستطع) جاءت دون ياء مثل (تستطيع).
وكلمة(اسطاعوا) قد حذفت منها التاء بينما وردت في كلمة(استطاعوا).

فما السر في ذلك، وهل وردت هذه وتلك دون معنى بلاغي أو بياني؟.

إن قول صاحب موسى: ((سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا))  إلى قوله: وما فعلته عن أمري ثم قال: ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا. فجاء باسم إشارة البعيد تعظيما للتأويل بعد ظهوره.
وهذه طريقة مسلوكة للكتاب والخطباء، وهي ترجع إلى قاعدة أخذ النتائج من المقدمات في صناعة الإنشاء .
وأكثر الخطباء يفضى إلى الغرض من خطبته بعد المقدمات والتمهيدات. وقد جاءت الآية على طريقة الخطباء والبلغاء ؛تعليما للخلق وجريا على مقتضى الحال المتعارف من غير مراعاة لجانب الألوهية، فإن الملائكة لا يمترون في أن قول الله قوول الحق ووعده الصدق فليسوا بحاجة إلى نصب البراهين.
وتسطع مضارع (اسطاع) بمعنى (استطاع) .
*حذف تاء الاستفعال:
- تخفيفا لقربها من مخرج الطاء.
 *والمخالفة بينه وبين قوله (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا):
- للتفنن تجنبا لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه.
- وابتدئ بأشهرهما استعمالا وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأن التخفيف أولى به لأنه إذا كرر تستطع يحصل من تكريره ثقل.
- وأكد الموصول الأول [ما الموصولة] الواقع في قوله (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) تأكيدا للتعريض باللوم على عدم الصبر.
*وأبدى بعضهم سرّا للتعبير أولا (بتستطع) ثم أخيرا (بتسطع) بحذف التاء فقال:
لما كان الإشكال عن الأفعال التي قام بها الخضر قويا ثقيلا. فقال بداية:
(سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) فقابل الأثقل بالأثقل والأخف بالأخف.
ولما أن فسر الخضر لموسى، وبين له تأويل ما لم يصبر معه، ووضحه وأزال المشكل، قال (تسطع) بحذف التاء.
كما قال: (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ)، وهو الصعود إلى أعلاه، (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً )وهو أشق من ذلك.
فقابل كلا بما يناسبه لفظا ومعنى.

فهناك كلمتان تبدوان وكأنهما على سواء وهما: «تَسْتَطِعْ» و «تسطع». وهما كذلك فى غير القرآن الكريم..
ولكنهما فى كلام الله ليستا على سواء، فى الميزان، الذي جاء عليه النظم القرآنى، وإعجازه القاهر المتحدّى!
فكلمة «تستطع» فيها شدة، وقسوة، ومصارحة مكشوفة، بالعجز عن الاستطاعة..
وقد قالها العبد الصالح هكذا صريحة مكشوفة، ليقطع بها الرحلة مع تلميذه..
ولكن حين جلس إلى تلميذه مجلس المعلّم، الذي يكشف لتلميذه، معالم الطريق المظلم أو المشرق، الذي كان يطوّف به فيه- جاءه بهذه الكلمة «تسطع» وقد اقتطع منها هذا المقطع الحادّ، فإذا هى كلمة وديعة رقيقة فيها هروب من المواجهة الصريحة المتحدّية، وعليها مسحة من الحياء!
والذي نود أن نشير إليه هنا من وجوه هذا التلاقي والتوافق، هو ما جاء فى قصة العبد الصالح من قوله لموسى، حين أراد فراقه: «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» فلما نبأه بتأويل هذا قال له: «ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ..
و فى قصة ذى القرنين يجىء قوله تعالى: «فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» .
فيجىء فعل الاستطاعة فى القصتين، بتاء المطاوعة مرة، ويجىء بغير التاء مرة أخرى..
و إن هذه التاء تدل على زيادة في الشدة والقسوة، حيث يفترق بها فعل عن فعل..
وهنا- فى قصة ذى القرنين- نجد نفس الشيء..
حيث أن القوم إذا أرادوا أن يصعدوا السدّ صعودا فما «اسْتَطاعُوا» ..
وأما حين أرادوا أن يحدثوا فيه نقبا فما «اسْتَطاعُوا» ..
ومعالجة النقب أشدّ صعوبة من محاولة التسلق..!!

والله أعلم

المصادر:
-التحرير والتنوير
-تفسير القاسمي

-التفسير القرآني للقرآن ،عبد الكريم يونس الخطيب (المتوفى: بعد 1390هـ)،دار الفكر العربي – القاهرة.

1 comment :