Thursday, September 3, 2015

آية وآيات مفردة وجمعا في النص والسياق القرآني



آية وآيات مفردة وجمعا في النص والسياق القرآني:
المسلم مطالب بالتفكر في القرآن الكريم وما فيه من بلاغة ودعوة إلى الأخلاق وتكريس الإيمان وبيان الأحكام وغير ذلك من معاني الإسلام والإيمان والإحسان.
والنظر في مخلوقات الله بتدبر وتأمل وما فيها من دقائق الخلق والتكوين يجعل القلب ينبض حبا بالله، ويجعل العين تدمع خشية لله، بينما تهتز الروح فرحا بلقاء الله وحب بمجاورته، تكون النفس تصقل من أدرانها شيئا فشيئا، فيخشع المسلم في عبادته ويخضع في طاعة الله، ويكون على ذكر من الله فيبتعد عن المعاصي وينفر من الذنوب.
و الناظر للسياق القرآني والمتدبر في كتاب الله يلحظ وجود كلمة (آية) و(آيات) في ذات السياق القرآني، مما يسترعي الانتباه ويوقظ حس الاكتشاف في عقل المؤمن ويدعو للتفكر والتدبر.
وفي هذا الموضوع سنوضح هذه الظاهرة بعض الشيء:
مثال أول :
فمثلا يقول الله تعالى في قصة قوم لوط (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ﴿73﴾ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴿74﴾ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ﴿75﴾ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ ﴿76﴾ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ ﴿77﴾).
فلأي معنى جُمع لفظ[الآية] في هذه القصة، فقال:[إن في ذلك لآيات للمتوسمين] ثم وحَّدها في القصة نفسها فقال بعد ذلك [إن في ذلك لآية للمؤمنين]؟
ولماذا لم تأتي في كلا الموضعين بنفس الصيغة إما جمعا أو إفرادا؟

إن التعبير القرآني في قوله[إن في ذلك لآيات للمتوسمين] جاء على هذا الوضع في جمع [آيات]إشارة إلى ما قصَّ الله تعالى من حديث النبي لوط ، وضيف إبراهيم، وتعرض قوم لوط لهم طمعا فيهم، وماكان من أمرهم آخرا من إهلاك الكفار وقلب المدينة على من فيها، وإمطار الحجارة على من غاب عنها، وهذه أشياء كثيرة كل واحدة منها آية مجموعة لبعضها لتكوين آيات للمتوسمين لمن يتدبر السِّمَة بما وَسَمَ الله تعالى به العاصين من عباده، ليستدلوا بها على مَن بَعُدَ مِن عباد الله عن عباجته فيتجنب ذلك، فكان ذكر [الآيات] هنا أولى وأشبه بالمعنى.  
وأما قوله في الموضوع الثاني (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ ﴿76﴾ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ ﴿77﴾) فإنها تعني أن تلك المدينة المقلوبة مقيمةٌ للنظار موجودة وحاضرة لمن يراها، وهي بمرأى العيون، لبقاء آثارها، وهذه واحدة من تلك الآيات فلذلك جاء بعدها(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ).

ومثال ثانٍ :
ومن ذلك قول الله عز وجل(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ {10} يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {11} وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {12} وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ {13}).

والسؤال هنا: لماذا وحَّد كلمة (الآية) في أولها وآخرها، وفي وسطها جمعها(آيات) ولماذا كان ذلك الاختيار وفي كل ذلك آيات كثيرة؟

جاء التعبير  في الآية الأولى(إن في ذلك لآية) لأن جميع ما أخبر الله عنه من جنس صُنعٍه ونوع] مِن خَلقِه، وهو كل ما نجم من الأرض مما فيه قوتُ الخلق، وهذا كله مما يخرج من الأرض بالماء فهو على جمعه كأنه شيء واحد فجاءت لفظة (آية) مفردة لتوحيد المدلول عليها، فالشراب والشجر الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وكل الثمرات يُسقى من ماء واحد فكأن شيء واحد فجاءت لفظ (آية) مفردة.
وجاء التعبير في الآية الثانية بجمع (آيات) في قوله (إن في ذلك لآيات) لأنه ذكر آيات كثيرة ، فذكر الليل وهو إظلام الجو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وذكر النهار وهو بُدُوُّ الضياء من طلوع الشمس إلى غروبها، وذكر [الشمس والقمر]كما ذكر [النجوم]، فكان كل ذلك (آيات) تنبه الإنسان للتفكر والتدبر وإمعان النظر في شأنها وأمرها ليصل إلى الإيمان الصحيح الصادق القائم على العلم والمعرفة.
فكان ذكر (الآيات) بصيغة الجمع أولى وأنسب.
وأما في الآية الثالثة (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فالمعنى أن جميع جواهر الأرض من ذهب وفضة وحديد وما في الأرض من معادن وثروات نفطية وغير نفطية كلها جعلها الله ذات منافع وفوائد مختلفة للخلائق.
وهي كلها تحت الأرض ولخروجها من الأرض تكون (آية) بلفظ المفرد.وهو أنسب وأحق.

ومثال ثالث :
في قوله تعالى (وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً  نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا  يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)).

والسؤال هنا: لماذا وحَّد جميع الآيات بلفظ المفرد من (آية) مع وجود آيات كثيرة؟

لقد جاء التعبير القرآني في كل هذه الآيات بلفظ [آية] لأن المذكور في كل آية صنفا واحدا، فجعل ما دلَّ منه على الصانع آيةً واحدة.
وأما يقال عن الآية الثانية من أن الأنعام وثمرات النخيل والأعناب أنها قد جاءت بلفظ الجمع، وليس جمعيها صنفا واحدا فكان يجب في الاختيار والأحسن أن يقال[إن في ذلك لآيات]، فليس صحيحا، لأن الإشارة في قوله (ذلك) إشارة إلى [ثمرات النخيل والاعناب] دون [الأنعام]، و [ثمرات النخيل والأعناب] صنف واحد، فلذلك جاء التعبير بـ[آية] دون [آيات]، ذلك لانطباق وصفهما بأنهما ثمرات .
وأما [الأنعام] فقد قال الله تعالى بخصوصها في ابتداء الآية: (وإن لكم في الأنعام لعبرة)، فكأنه قال :لكم فيها آية، فَخَلُصَت [إن في ذلك لآية] للصنف الواحد من ثمر الشجر.

وأما الآية الثالثة، فمقصود بها النحلة خاصة، فلذلك قال[إن في ذلك لآية].
وهكذا نجد أن كلمة[آية] حينما استعملها القرآن الكريم مفردة كانت في موضع يليق فيه الإفراد، وحينما جاء بها في التعبير جمعا، كانت في موضع يناسبه الجمع.

فهذا النظم الأنيق والنسق العجيب، لا يعلمه إلا الله تعالى سبحانه خالق الإنسان ومعلمه البيان، ويرشد إليه المتفكر والمتدبر في القرآن الكريم، ليستخلص العبر والدروس ، ويستنبط الفكر والعلم والمعرفة.

وها هنا تنبيه واضح في جميع هذه الآيات، للتفكر في مخلوقات الله وإعمال العقل فيها، والسعي لاكتشافها، وربطها بعظمة الله وقوة الله وحكمة الله.
وهي دعوة إلى دراسة مخلوقات الله واكتشاف ما فيها من نمط حياة وسبل عيش، واستغلالها لعمارة الأرض وبث السلام ونشر الرحمة والدعوة إلى الله تعالى.
قال الشاعر:
هو القرآن للدنيا أمانٌ** وفي الأخرى لصاحبه الخيامُ
وأنهارٌ من العسل الْمُصَفَّى** وخمرٍ في مشاربها الهيامُ
ولبنٍ طيب حلو شهي** وماءٍ من عذوبته اغتنامُ
وجناتُ النعيم به استقروا** وفردوس العطايا والوئامُ
ونيرانُ العذاب لمن تخلوا** عن القرآن في الدنيا تعاموا
وأصوات الذين بقعر نار** إليها شدهم فيها الحرامُ
وتسليهُ الحبيب بآي وحي** تجلى للنَّبي فيه احترامُ
وتوقيرٌ وتكريمٌ ونصرٌ** ودعمٌ فيه للدين التئامُ
فما أحلاكَ يا قرآنُ إِنَّا** جميعا في خلايانا الغرامُ
نُحِبُّكَ والذي برأ البرايا** بك الأرواحَ يسقيها الغَمَامُ
ويحفظك الذين لهم مزايا** مع القرآن في العليا تساموا
فهم أهلٌ لخلقنا تعالى** وهم بالنور في الذِّكْرِ الأنامُ
عبادُ الله بالقرآن سادوا** وتم القصد واكتمل الْمَرَامُ
فجد بالفضل يا ربي علينا** وجد بالعفو إنْ حان القيامُ
ووفق سيدي الأبناء جمعا** بحفظ فيه بالآي اهتمامُ
وهب للكل قرآنا كريما** بهدي فيه للروح انسجامُ
ومرقاها الجليل بروض عدن** يلاقيها مع الخلد الإمامُ
وأبلغ ربنا طه وآلا ** صلاتي كلما غَنَّى الحَمَامُ
والله أعلم
المصادر والمراجع:
-درة التنزيل 252،27،266 ،257.
-البرهان: 4/14
-من أسرار التعبير في القرآن ، صفاء الكلمة، صلاح لاشين ،: ص 132 -136

No comments :

Post a Comment