Wednesday, September 2, 2015

بين أركسهم وردهم فروق ومعان



بين أركسهم وردهم فروق ومعان:
رحلة المسلم في الحياة شاقة وطويلة، تتطلب الصبر والاستقامة، كما تتطلب الثبات وقوة الإرادة ، لتطبيق ما أمر الله من أحكام وأخلاق ومعاملات، وتنفيذ ما جاء في شريعته من تشريع وقواعد.
 ويلتقي المسلم بأناس حادوا عن النهج القويم وضلوا عن الصراط المستقيم، إما من تلقاء انفسهم، أو بتأثر خارجي إما من عدو الإسلام أو من أناس يثيرون الشبه ويثيرون غبار شبهاتهم ليخدعوا ويضلوا، فيقعوا في حفرة النفاق، ويدورا مع المنافقين في فلكهم الذي نهايته في ثقب أسود من الانحراف والسقوط والتلاشي.
 و لا بد من بيان لوضع المنافقين ومآلهم الأسود الذي سيأتيهم لا محالة.
والمنافقون الذين يوالوان أعداء الإسلام ويعملون معه للقضاء على الإسلام مصيرهم المقاطعة ومحاربتهم والرد عليهم وعدم تصديق ما يقولونه وما ينشرونه مهما بدا صالحا لأنه تحت صلاحهم فسادا، وبين ثنايا كلامهم المعسول سما زعافا.

وبيَّن القرآن الكريم عاقبة المنافقين بلفظ أركسهم فما هي الحكمة من ذلك وما هو البعد الدلالي لذلك؟
هذا ما سنعرفه في هذا الموضوع.
 يعاتب الله تعالى المسلمين على اختلافهم في شأن طائفة من المنافقين كانوا يُظهرون أولا إسلامَهم، ثم لحقوا بالمشركين حينما وجدوا الفرصة، فيقول في ذلك(فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا).
 فالقرآن الكريم ينكر على المسلمين أن يختلفوا في أمر قوم ردهم الله إلى الكفر، فلا ينبغي أن يحزنوا على فراق هذه الفئات الضالة.
 أركسهم بمعنى أعادهم، كانوا كفاراً فأسلموا، ونافقوا، وقد أعادهم الله كفاراً، بل إن عذابهم يوم القيامة أشد من عذاب الكفار (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
 وأركسهم بالعدل، أركسهم بما ظلموا، أركسهم بما كسبوا، هذا الذي يقطف ثمار المؤمنين وهو ليس مؤمناً، ويقطف ثمار التفلت من منهج الله، وهي مكاسب الكفار كما يتوهمون، هذا الذي يجمع بين مكاسب المؤمنين وهو ليس مؤمناً، وبين ما يتوهمه الكافر أنه مكاسب وهو كذلك، هذا مكانه في الدرك الأسفل من النار .
(فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا):
 أي أعادهم إلى سيرتهم الأولى، هم أرادوا بالنفاق أن يغنموا لا أن يوحدوا، أحياناً الإنسان يرى مصلحته أن يكون مع أهل الإيمان، قد يرى مصلحته التجارية فقط، وقد يرى مصلحته الأسرية فقط، فكم من إنسان أسلم ليتزوج من امرأة رائعة؟ ولا ينعقد العقد إلا إذا أسلم، فالمنافق بالتعبير المعاصر وصولي يبرر الوسائل غير الشريفة لأهداف غير شريفة، المنافق همه المصلحة، همه الهوى والدنيا، إذا آمن إيماناً شكلياً فلمصلحة راجحة تتحقق عنده.
 والمراد من لفظة (أركسهم) هي(ردهم)، ولو جاء التعبير القرآني :[فما لكم في المنافقين فئتين والله ردهم بما كسبوا] بدلا من [أركسهم بما كسبوا] لكان المعنى صحيحا.
لكن القرآن الكريم اختار كلمة[أركسهم] دون [ردهم] لعدة أسباب منها:
-أن [الإركاس] يوحي بمعانٍ، ويشير إلى إيحاءات تفتقدها كلمة [ردهم].
فاستعمالات هذه المادة في الغة تدور حول أمور:
تقول أركسه ورَكَسَه: قلبه ع رأسه،وشدَّ دابته إلى الرِّاسة وهي: الآخيَّة، وهذا ركس رجس، وبناء ركسٌ:رُمَّ بعد انهدام.
فحينما يسمع السامع كلمة [أركسهم] تتوارد على ذهنه هذه المعاني كلها.
-ومنها: قلب الشيء على رأسه، وشد الدابة إلى ما تُربط إليه، والشيء الرجس، وصورة البناء المتهدم الذي لا يُمسكه إلا الترميم.
- ومنها أن أركسهم تأتي بمعنى:
*ردهم إلى أحكام أهل الشرك و أوقعهم في الهلاك
*بدَّدهم. أو ردّهم إلى كفرهم و نكَّسهم.
وحيبئذٍ يتصورهم السامع في كل هذه الصور،أو في صورة منها مهينةٍ ساخرةٍ،ولا ينهض بهذا الوصف الكلمة المرادفة [ردهم].

لفتة بلاغية:
-والتعجُّب الذي في قوله: [فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ]؛ لأنَّ السَّامعين يَترقَّبون بيانَ وجْهِ اللَّوم، ويَتساءلون عمَّاذا يتَّخذون نحوَ هؤلاء المنافقين. والاستفهام للإنكار، وقد دلَّ هذا الاستفهامُ الإنكاريُّ المشوبُ باللَّومِ على جملة محذوفةٍ هي محلُّ الاستئنافِ البيانيِّ، وتقديرُها: إنَّهم قد أضلَّهم الله، [أتُريدون أن تَهْدُوا من أضلَّ الله]؛ هذا بناءً على أنَّ قوله: [وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ] ليس المرادُ منه أنَّه أضلَّهم، بل المراد منه: أساءَ حالَهم، وسوءُ الحال أمرٌ مُجمَل يفتقرُ إلى البيان، فيكون فصْلُ الجملةِ فصلَ الاستئناف.
وأمَّا على أنَّ المعنى: أنَّه ردَّهم إلى الكفر، تكون جملةُ [أَتُرِيدُونَ] استئنافًا ابتدائيًّا، ووجْه الفَصْل-أي: عدم العطفِ- أنَّه إقبالٌ على اللوم والإنكار بعدَ جملة [وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ] التي هي خبريَّة؛ فالفصلُ لكمالِ الانقطاع؛ لاختلافِ الغرَضينِ.

-  وفيه تجريدٌ للخِطاب وتخصيصٌ له بالقائلين بإيمانِهم مِن الفئتين، وتوبيخٌ لهم على زعْمهم ذلك، وإشعارٌ بأنَّه يؤدِّي إلى محاولة المُحالِ الذي هو هدايةُ مَن أضلَّه الله تعالى؛ وذلك لأنَّ الحُكمَ بإيمانهم، وادِّعاء اهتدائِهم- وهم بمَعْزلٍ من ذلك- سعيٌ في هدايتهم وإرادةٌ لها

والبعد الدلالي لهذه الكلمة:
-ان يحذر المؤمن من موالاة المنافقين والذين يحاربون الإسلام فإنهم قوم أركسهم الله وأوقعهم في الهلاك بسبب أعمالهم المشينة ومحاربتهم لله ولرسوله وللقرآن وللشريعة الإسلامية، بنشر الإلحاد والاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بالقرآن الكريم.
-الإنكارُ على المؤمنينَ في الاختِلَاف في المنافقين؛ لقوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ
-قولُ الله تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) في هذه الآية دليلٌ على أنَّ المجتهدَ إذا استَنَد إلى دليلٍ ضعيفٍ ما كان من شأنِه أن يستدِلَّ به العالِمُ؛ لا يكون بعيدًا عن الْمَلَام- في الدُّنيا- على أنْ أَخْطَأَ فيما لا يُخطِئُ أهلُ العِلْم في مِثْلِه.
-قوله تعالى:  (وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) قد أسند الله- تعالى- فِعْل هذا الإرْكَاس إليه وقَرَنَه بسبَبِه، وهو كَسْبُ أولئك الْمُرْكَسِينَ للسَّيِّئات والدَّنَايا من قَبْلُ حتَّى فسدت فِطْرَتُهم، وأحاطت بهم خَطِيئتُهم فأَوْغَلوا في الضَّلال، وبَعُدُوا عن الْحَقِّ، حتَّى لم يَعُدْ يخطُرُ على بالِهِم ولا يَجُول في أَذْهَانِهِم إلَّا الثَّباتُ على ما هم فيه، ومقاومةُ ما عداه، مقاومةً ظاهرةً عند القُدرة، وخَفِيَّةً عند العَجْزِ، هذا هو أثَرُ كَسْبِهم للسَّيِّئات في نفوسهم، وهو أثرٌ طبيعيٌّ، وإنَّما أسندَهُ الله تعالى إليه; لأنَّه ما كان سببًا إلَّا بسُنَّتِه في تأثير الأعمالِ الاختيارِيَّة في نفوسِ العاملين .
 - أنَّ الإنسان يُركَسُ ويُرَدُّ على الوجه المذمومِ بسبَبِ عَمَله، ويُؤخَذ من قوله: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا.
-أنَّ الأعمالَ قد تكونُ سببًا لرِدَّةِ الإنسانِ بكَثرةِ معاصيهِ، فالسَّيِّئةُ تَجذِبُ السَّيِّئةَ، والصَّغائرُ بَريدُ الكَبائرِ، والكبائِرُ بَريدُ الكُفْر، وهذا واضحٌ، يُؤخَذُ هذا من قوله: أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا.
-الرَّدُّ على الجبْرِيَّة، ويُؤخَذُ من قوله: [بِمَا كَسَبُوا]، فأثبَتَ لهم كَسْبًا، والْجبريَّة يقولون: إنَّ الإنسان لا كَسْبَ له، وأنه مُجْبَرٌ على عَمَلِه
-الرَّدُّ على القَدَرِيَّة أيضًا، ويؤخَذُ من قوله: [وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ]، والقَدَرِيَّة يقولون: إنَّ أفعال العباد لا عَلَاقة لتقديرِ الله بها إطلاقًا، فصار في الآية ردٌّ على كلتا الطائفتين الْمُنحرِفَتَين الْمُبتدِعَتَيْنِ، وأهلُ السُّنَّة والجماعة يقولون: للإنسان فِعْلٌ يُنْسَبُ إليه حقيقةً، والْمُقَدِّرُ لهذا الفعلِ هو الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو الْمُطابِق للمَنْقُول والمعقُول والْمَحْسُوس

(وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا)
أي: والحالُ أنَّ الله تعالى قد ردَّهُم إلى الكُفرِ وأوقَعَهُم فيه؛ بسَببِ ما اقْتَرفوه مِن آثامٍ وسيِّئاتٍ؛ فلا يَنبغي لكم أنْ تَشْتَبِهوا فيهم، ولا تَشكُّوا، بل أمْرُهم واضحٌ غيرُ مُشكِل، فالصَّوابُ مع مَن قال: إنَّهم كافِرون
والمعنى الاجمالي للآيات:
يُخاطب اللهُ تعالى المؤمنين: ما شأنُكم في المنافقين فِئتَينِ مختلفتَينِ؛ فئةً تُكَفِّرُهم، وفئةً لم تكفِّرْهم، والحالُ أنَّ الله ردَّ هؤلاءِ المنافقين إلى الكُفر، وأوْقَعَهم فيه؛ بما عَمِلُوه واقترفُوه من السَّيِّئات، فلا ينبغي الشكُّ فيهم، فهل يريد الشَّاكُّون في أمرِهم من المؤمنين أن يَهْدُوا مَنْ خَذَلَه الله ولم يُرِدْ هِدَايَته، بلِ الشَّأْنُ أنَّ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فلا سبيلَ إلى هدايتِه أبدًا.
و إن الأعمالُ تتوالدُ مِنْ جِنْسِها، فالعملُ الصَّالِح يأتي بزيادةِ الصَّالِحاتِ، والعملُ السَّيِّئُ يأتي بالمعاصِي، فالعملُ سببٌ في بُلُوغ الغاياتِ مِنْ جِنْسِه؛ يرشدنا إلى ذلك قولُ الله تعالى (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) فَقَد جَعَل الله ردَّ الْمُنافقين إلى الكُفْر جزاءً لِسُوءِ اعتِقَادِهِم وقلَّةِ إخلاصِهِم مع رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم
فكم هو جميل التدبر في كلام الله، والغوص في بحاره لإخراج لآلئه البديعة وجواهره الفريدة.
وواجب على كل مسلم أن يجعل من وقته جزءا يقرأ فيه القرآن ويتدبر في آياته، فسيجد فيه الراحة والطمأنينة ودرب السعادة.

يقول الشاعر:
هو القرآنُ للمولى كَلامُ** به التشريعُ للدنيا نظامُ
له الإجلالُ .. مَنْ قاموا بنورٍ** مع القرآن بالحسنى أقاموا
ونالوا الخيرَ في أُنْسٍ وأمْنٍ** بحكم الله بالعيش استقاموا
وعاشوا بالهدى نهجا وقصدا** حميدا في مرابعه السلامُ
فبالفرقان سَعْدُهمُ تَبَدَّى** بعزٍّ فيه بالمجد انتظامُ
كتابُ الله رَبِّ العرش نرقى** به العلياءَ يبلغها الكرامُ
ضياءُ القلب والأرواحِ رَوْحٌ** وريحانٌ به الأطهارُ هاموا
به واللهِ للإنسانِ عزٌّ ** وتعليمٌ وفقهٌ واحتكامُ
وتاريخٌ قديمٌ كان نِسْيَا** لأقوامٍ بأرض الله قاموا
وبادوا وانتهى ما كان منهم** وفيهم قد ثوى عنهم خصامُ  
كتاب الله صَنَّفَهم بحق** فَقَرَّ الفكرُ واعتدل الكلامُ
والله أعلم
المصادر والمراجع:
-المنجد في اللغة والأدب،
 -أساس البلاغة للزمخشري .
-القاموس المحيط للفيروز آبادي ،مادة ركس،معاني القرآن 1/281
-تفسير ابن كثير 2/371
-تفسير السعدي ص 192
-تفسير التحرير والتنوير لطاهر بن عاشور 5/150
-تفسير ابن عثيمين،سورة النساء 2/50
-تفسير فخر الدين الرازي،مفاتيح الغيب،10/169
-تفسير أبي حيان 4/9
-تفسير أبي السعود 2/212
-تفسير النابلسي.
- من أسرار التعبير في القرآن ، صفاء الكلمة، صلاح لاشين ،ص132

No comments :

Post a Comment