Saturday, October 24, 2015

الإعطاء والإيتاء،جمال في التعبير، ونور في الكلمات، وبلاغة وبيان :



- الإعطاء والإيتاء،جمال في التعبير،ونور في الكلمات،وبلاغة وبيان:
جميل أن يهتم المسلم بالقرآن العظيم، فيتلوه تلاوة حقة بالتدبر والتمعن في آياته ومراميها.
والقرآن نور يهدي به الله من اتبع رضوانه في هذه الحياة، وقدّم رضا الله على شهواته وأهوائه.
وحامل القرآن ليس من يحفظه فقط، إنما من يقرأه ويتدبره، ويعمل بما جاء به، فهذا أجره كبير وثوابه عظيم.
ومن كلمات القرآن التي تسترعي التدبر والتأمل هي (الإعطاء والإيتاء).
فهما كلمتان يغفل عن التفريق بهما العلماء فما بالك بغيرهم.
وفي هذا الموضوع سنوضح الفروق بين (الإعطاء والإيتاء).

لا يكادُ بعضُ أهل اللغةِ يفرقون بين الإيتاء والإعطاءِ, فما بالنا بالعامة, لكن بينهما فرق يوحى ببلاغة القرآن وعظمته, وذلك لأن الإيتاء أقوى من الإعطاء فى اثبات مفعوله.

إن [الإيتاء] أقوى من [الإعطاءٍ]، في إثبات مفعوله، لأن[الإعطاءٍ] له فعل مُطاوِع، تقول: أعطاني فعطوتُ، ولا يقال في [الإيتاء] أتاني فأتيتُ، وإنما يقال: آتاني فأخذت.
والفعل الذي له فعل مطاوع أضعف في إثبات مفعوله من  الذي لا مُطاوِع له.
لأنك تقول: قطعته فانقطع، فيدل على ان فعلَ الفاعل كان موقوفا على قبولٍ في المحل، ولولاه ما ثبت المفعول.
ولهذا يصح : قطعته فما انقطع.
 ولا يصح فيما  لا مطاوع له ذلك، فلا يجوز: ضربته فانضرب أو فما انصرب، لأن هذه أفعال إذا صدرت من الفاعل ثبت لها المفعول في المحل.

وبناء على هذا فــ(الإيتاء) أقوى من (الإعطاء).
الإيتاء يشمله النزع بمعنى انه ليس تمليكا إنما العطاء تمليك. والإيتاء ليس بالضرورة تمليكا.
وهذا المعنى مراعى في القرآن الكريم في كلتا الكلمتين [الإيتاء والإعطاء].
ففي لفظ الإيتاء يقول الله الملك (( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء)) لأن المُلك شيء عظيم ولا يُعطيه إلا من له قوة.
وكذلك الحكمة في قوله ((يؤتي الحكمة من يشاء)).
وكذلك قوله (( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم)).
فقال سبحانه : آتيناك ، ولم يقل : أعطيناك ؛ وذلك لعظم القرآن ورفعة قدره، فعبر بالإيتاء .
وقيل فى الفرق بين( آتيناهم وآتوا )أن أتيناهم أبلغ من آتوا, لأن أوتوا قد تُقال إذا أُوتى من لم يكن منه قبول, لكن آتيناهم يُقالُ فيمن كان منه قبول.
وقال الله الخالق (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ) ، وقال الله البارئ  (وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ ( فخَصَّ دفع الزكاة بلفظ "الإيتاء "، لمكانتها في الإسلام .
قال الراغب الأصفهاني :
خص دفع الصدقة في القرآن بالإيتاء ، نحو (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة). (وأقام الصلاة وآتى الزكاة).
وكل موضع ذكر في وصف الكتاب ( آتينا ) فهو أبلغ من كل موضع ذكر فيه ( أوتوا ) ; لأن ( أوتوا ) قد يقال إذا أوتي من لم يكن منه قبول ، و ( آتيناهم ) يقال فيمن كان منه قبول .

الإعطاء:
أما الإعطاء ، فيقول الله المُعطي (( إنا أعطيناك الكوثر))
*وهذا عطاء من الله، وهو مردٌ في الموقف مرتَحل عنه، تأتي إليه وتشرب منه، ثم تذهب لما هو أعظم كدخول الجنة وموقعك منها ومرتبتك فيها ومكانك بها، إذ الجنة أعظم من الكوثر،ولذا هناك أناس يدخلون الجنة دون حساب.
فعُبِّرَ فيه بــ[الإعطاء]، لأنه يُترَك عن قُرب، ويُنتقل إلى ما هو أعظم منه.
*وكذلك قول الله السلام (( ولسوف يعطيك ربك فترضى))
فعبر عنه بلفظ "الإعطاء"لما فيه من تكرر [الإعطاء] والزيادة إلى أن يرضى كل الرضا، وهو مفسر أيضا بالشفاعة، وهي نظير[الكوثر] في الانتقال بعدها إلى ما هو أعلى وأفضل منها.
*وكذلك قوله" يعطيك ربك فترضى" لما فيه من تكرار الإعطاء والزيادة إلى أن يرضى كل الرضى.
*وكذلك " حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" لأنهم يُعطونها عن كراهةٍ.
فخَصَّ دفع الجزية بلفظ " الإعطاء " ؛ لأنها موقوفة على قبول منا ، وإنما يعطونها عن كره ، بخلاف الصدقة ؛ ألا ترى إلى قولهم : أعطى يده ، إذا انقاد وأطاع ؟ وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون إعطاؤه للزكاة بقوة ، وألا يكون كإعطاء الجزية.
وكذا قوله :﴿ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى( ، فعبَّر فيه بلفظ " الإعطاء " ؛ لتكرر حدوث ذلك ، باعتبار الموجودات .

* قال الفاضل النيسابوري:
وفي الإعطاء دليل التملك دون الإيتاء:
 *وعقَّب عليه أبو هلال العسكري بقوله :
ويؤيده قول الله الوهاب (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، فإنه كان له منع من شاء منه كالمالك للملك . وأما القرآن فحيث أن أمته مشاركون له في فوائده ، ولم يكن له منعهم منه ، قال الله الغافر( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ).
وحقيقة القول في ذلك أن " الإعطاء " هو إيصال الشيء إلى الآخذ له .
ألا ترى أنك تعطي زيدًا المال ؛ ليرده إلى عمرو ، وتعطيه ؛ ليتَّجر لك به ، وتعطيه الثوب ؛ ليخيطه لك .
وهذا لا يقتضي إخراج الشيء المعطَى من الملك ، وبالتالي لا يقتضي التمليك ، بخلاف الهبة التي تقتضي التمليك ، فإذا وهبته له ، فقد ملكته إياه ، ثم كثر استعمال الإعطاء ، حتى صار لا يطلق إلا على التمليك ، فيقال : أعطاه مالاً ، إذا ملكه إياه ، والأصل ما تقدم .
*ويبين لك ذلك أن الله تعالى جعل الملك الذي آتاه سليمان عليه السلام " عطاء " في قوله المبين (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، ولم يجعله "إيتاء"؛ لأن سليمان- عليه السلام- سأل ربه عز وجل أن يكون ذلك الملك هبة منه جل وعلا له ، يتصرف به كيفما يشاء ؛ لأن الهبة تقتضي التمليك والتصرف ، فقال عليه السلام( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)، فكان جواب ربه القادر (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ).
والحمد لله على ما وهب وأعطى وآتى ، له الفضل والمنَّة .

فما أغزر المعاني المتدفقة من القرآن الكريم، وما أكثر السحب الممطرة من بلاغة وبيان القرآن الكريم.
وجدير بالمسلم أن يخصص من يومه وقتا يتلو آيات الله، ويتفكر فيها ويتدبر معانيها، ويقف عند أوامرها ونواهيها، وفي ذلك فائدة لنفسه بأن تتطهر من الذنوب، ولروحه من أن تلقي عن كاهل ثقل المعاصي، ولعقله من زيادة في العلم والمعرفة، ولقلبه من زيادة في الإيمان وعلو المرتبة.
قال الفضيل بن عياض ( حامل القرآن حامل راية الإسلام ، لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو ، ولا يسهو مع من يسهو ، ولا يلغو مع من يلغو ، تعظيماً لحق القرآن ).
قال الشاعر:
فيا أمة التوحيد هذا كتابكم *** فلا تتركوه للعدا أو ير الهجرا 
وما دمتم مستمسكين بحبله *** فلن يدرك الأعداء في كيدهم نصرا 
فيا رب ألهمنا السداد بحفظه *** ويسر لنا مما نخاف به العسرا
ووفق شباب المسلمين لنهجه *** عسانا تعيد المجد والسيرة الغرا
ونبني على ضوء الكتاب حياتنا *** فنملك فيه العز والغاية الكبرى 
فيا رب يا رحمن نرجوك رحمة *** وعزاً بدنيانا وعفوك في الأخرى

والله أعلم
المصادر:
-بيان اعجاز القرآن  محمد إسماعيل عتوك،ص 59. 
-من أسرار التعبير في القرآن الكريم،صفاء الكلمة،صلاح لاشين ص 71-77
- الاتقان في علوم القرآن للسيوطي1/197.
-مفردات غريب القرآن للراغب الأصفهاني.
- لمسات بيانية للدكتور فاضل السامرائي.

No comments :

Post a Comment