Saturday, October 31, 2015

ورود (ألم تر) و(ألم تعلم) في القرآن الكريم،بلاغة وبيان



ورود (ألم تر) و(ألم تعلم) في القرآن الكريم،بلاغة وبيان:

عند النظر في آيات الله البينات، نلاحظ ظاهرة تعبيرية بيانية وبلاغية، لها وقع في القلب ولها أثر في العقل والفكر، تنطوي على حكم ودلالات، وتشير لبلاغة وبينات، تُسعد القلب وتُبهج الروح وتُثلج الصدر.
وهي التعبير بــ(ألم تر وألم تعلم).

يقول الله تعالى مقررا للرسول الكريم بحادثة الفيل ((ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)).

فلماذا جاء التعبير بـ(ألم تر) وهو الفعل الذي يدل على الرؤية البصرية، مع أن حادثة الفيل هذه كانت في عام ولادته صلى الله عليه وسلم، فهو لم يرَ أحداث القصة ولم يعاينها، بل سمعها وأُخبِرَ بها، وعلى هذا فالمقام يقتضي في التعبير أن يقول(ألم تعلم) دون (ألم تر)؟.

نعم، المقام يقتضي في التعبير البشري أن يقول(ألم تعلم) لأن هذه الحادثة سمعها الرسول عليه الصلاة والسلام وأُخبر بها، لكن التعبير القرآني اختار كلمة(ألأم تر)لأن العلم الذي يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ويُخبَر به نبيه من قبله وإن كان غيبا فهو بمنزلة الخبر المُشَاهد، ويجب أن يكون إخبار الله العظيم أقوى وسائل العلم وهو الرؤية العينية ؛إذ هي من قبيل التجربة الشخصية(ومن أصدق من الله قيلا) (ومن أصدق من الله حديثا)

وهذا هو السبب في أن [ألم ترَ] تأتي كثيرا في القرآن الكريم ومعناها [ألم تعلم]، كقول الله الودود ((ألم تر أن الله يسجد له مَن في السموات ومَن في الأرض)) ((ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره)).
فما دام الخبر من الله تعالى وإن كان غيباً فهو بمنزلة الخبر المشاهد المعاين،ويجب أن يكون إخيار الله له بأقوى وسائل العلم وهو الرؤية العينية ولهذا يجيء في كتاب الله تعبير (ألم تر) دون (ألم تعلم).
السر في التعبير بكلمة (كيف فعل ربك):
وفي الآية لفتةٌ كريمة إلى كيفية عقاب الله لجيش أبرهة فقال (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) فلو جاء التعبير [ألم تر ما فعل ربك بأصحاب الفيل] لصح الكلام
ووضع هنا (كيف فعل) مكان(ما فعل).

لكن المراد ليس مجرد فعل، ولكنه فعل على كيفية مخصوصة لا تصدر إلا من الله تعالى فقد كان من الممكن أن يهزم الله جيشَ أبرهة بطريقة عادية، وذلك بأن تقوم جماعة قريش  على جماعة الحبشة،وينصر الله قريشا عليهم،كأي معركة من المعارك التي تدور بين البشر؛ لكن الله سبحانه فعل ما فعل بأصحاب الفيل،لا بأيدي قريش ولا بأسبابهم،وإنما بشيء آخر فوق الأسباب الأرضية والقواميس البشرية،فالعجبُ إذن ليس من الفعل نفسه ، ولكن من كيفيته التي وقع عليها.
وهذا السر في التعبير بكلمة(كيف) في الآية الكريمة.

إتيان الخبر بأوثق أنواع التوكيد:
ثم إن الخبر في الآية يأتي من الله تعالى بأوثق أنواع التوكيد، فلم يقل [أرأيت ما فعل ربك بأصحاب الفيل]، ولكنه قال(ألم تر) بالاستفهام المراد منه النفي، والداخل على [لم] الدالة على النفي، وذلك تقرير وتوكيد بأبلغ أسلوب، لأن نفي النفي إثبات.

لأنه حين يُلقَى الخبرُ بصيغة  الاستفهام يجعل المتكلمُ شريكاً في إعداد الجواب، فلو قال[أرأيت ما فعل ربك بأصحاب الفيل] كان في ذلك الأسلوب إشراك المخاطب في استنطاقه بالجواب.
ولو لم يكن المستفهِم-وهو الله سبحانه-واثقا من أن جوابَ المُخَاطَب سيكون بالإثبات لَمَا أُلقِيَ إليه ذلك السؤال، لكن لثقته بأن الجواب لا يكون إلا بالإثبات جاء بالاستفهام (ألم تر) وذلك آكد في الجواب وأَبين وأثبت. 

ولم يأتِ الله سبحانه وتعاظم بالاستفهام وحده،وإنما جاء بالاستفهام داخلا على النفي [لم] فقال ((ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل))  فكان ذلك استفهاما ليس موحيا بالجواب، إنما متأكدا من جواب المتلقي بالإثبات،وهذا أعظم بلاغة وبيانا.

والحق سبحانه وتعاظم حينما يأتي ليقرر بشيء لا يقرره بصيغة الإثبات، ولكن يقرر بالصيغة المقابلة التي هي النفي ثقة منه بأن الإجابة ستكون بالإثبات.
وعلى هذا جاء كثير من الآيات القرآنية مثل ((ألم نشرح لك صدرك)) ((ألم يجعل كيدهم في تضليل)) (( ألم نربك فينا وليدا)).

والمراد من الرؤية العلم والتذكير ، وهو إشارة إلى أن الخبر به متواتر فكان العلم الحاصل به ضرورياً مساوياً في القوة والجلاء للرؤية.
والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته. 

وعليه فالتقرير مستعمل مجازا في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصا للنبي صلى الله عليه وسلم.
فالرؤية يجوز أن تكون مجازية مستعارة للعلم البالغ من اليقين حد الأمر المرئي لتواتر ما فعل الله بأصحاب الفيل بين أهل مكة وبقاء بعض آثار ذلك يشاهدونه. وفعل الرؤية معلق بالاستفهام.
و[كيف] للاستفهام سد مسد مفعولي أو مفعول [تر]، أي (لم تر) جواب هذا الاستفهام.
 ويجوز أن يكون كيف مجردا عن معنى الاستفهام مرادا منه مجرد الكيفية فيكون نصبا على المفعول به.

وإيثار (كيف) دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول فلم يقل: [ألم تر ما فعل ربك]، أو [الذي فعل ربك]، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة.

وأوثر لفظ (فعل ربك) دون غيره لأن مدلول هذا الفعل يعم أعمالا كثيرة لا يدل عليها غيره.
وجيء في تعريف الله سبحانه بوصف (رب) مضافا إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود من التذكير بهذه القصة تكريم النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصا لنبوءته إذ كان ذلك عام مولده.

والخلاصة:
الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزةُ لتقريرِ رؤيتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بإنكارِ عَدَمِها وكيفَ معلقةٌ لفعلِ الرؤيةِ منصوبةٌ بما بعدَهَا والرؤيةُ عِلْميةٌ أيْ ألمْ تعلْم علماً رصيناً متاخماً للمشاهدةِ والعَيَانِ باستماعِ الأخبارِ المتواترةِ ومعاينةِ الآثارِ الظَّاهرةِ وَتعليقُ الرؤيةِ بكيفيةِ فعلِه عَزَّ وَجَلَّ لاَ بنفسِه بأَنْ يقالَ ألْم ترَ ما فعلَ ربُّكَ الخ لتهويلِ الحادثةِ والإيذانِ بوقوعِها عَلَى كيفيةٍ هائلةٍ وهيئةٍ عجيبةٍ دالةٍ عَلَى عظمِ قُدرةِ الله تعالَى وكمالِ علمِه وحكمتِه وعزةِ بيتِه وشرفِ رسوله صلى الله عليه وسلم.

والله أعلم
المصادر:
-المنتخب من تفسير القرآن ص 55،98-104.
- من أسرار التعبير في القرآن الكريم،صفاء الكلمة،صلاح لاشين،ص 89-91.
-تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 30/544-545.
-تفسير أبي السعود9/200.
-تفسير فخر الدين الرازي،مفاتيح الغيب،التفسير الكبير،32/289.

No comments :

Post a Comment