Thursday, May 8, 2014

الجسم والجسد في القرآن الكريم فروق وتقارب



الجسم والجسد في القرآن الكريم فروق وتقارب:

يبحث المسلم عن السعادة في زوايا مختلفة من الأفكار، وفي مناحي متعددة من الكتابات والحكم؛ التي تصدر من الغرب أو الشرق، وعنده أفضل مصدر للسعادة، وأوحد منبع لها يفيض بمعانيها ويخبر بطرقها وهو القرآن الكريم وما وافقه من صحيح السنة النبوية.

وخطأ كبير من المسلم أن يتوجه لغير القرآن ليبحث عن السعادة والتقدم والتحضر، لأن القرآن الكريم كلام الله وبلاغه للبشر، وهو خالقهم وأعلم بما يصلح لهم، فكان التوجه للقرآن لاستلهام معاني التقدم والتحضر أمرا واجبا لا محيص عنه، وهذا لا يعني ألا نستفيد من تجارب الأمم، بل نأخذ منها ما يوافق ديننا ويعلي شأننا ويرفع مكانتنا، وهذا أمر قام به الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان.

ومن ينظر للقرآن الكريم نظرة تأمل وتدبر يرى طرق السعادة تظهر ، ومسالك الخير بادية.
وعلى هذا النحو فإن السعادة تبدأ من القلب حين يفيض بالحب والخير لكل الناس، ومن مظاهره التأمل في آيات القرآن الكريم، والتدبر فيها والتمعن بها، واستجلاء بلاغتها وبديع بيانها وبيان بديعها، مما يُضرِم في القلب نار الحب لله الذي يتمثل بالأخلاق الصالحة والصفات الحسنة المؤدية لكل خير ولكل برّ.

والناظر في القرآن الكريم يشاهد ورود لفظتي (الجسم) و(الجسد) فهما كلمتان متقاربتان في الحروف وفي المعنى،وتُطلقان على بدن الإنسان.
لكن هناك فرق بينهما في القرآن الكريم،إذ هناك حالة يُسمى بدن الإنسان جسما، وحالة أخرى يسمى جسدا.
الجسم: هو البدن الذي فيه الحياة تتحرك وتفيض.
أما الجسد : فهو البدن الذي هو جثة هامدة ميتة لا تتحرك خامدة .

وأنبه إلى أن المتعارف عليه أن الجسم والجسد كلمتان ذات معنى واحد تطلقان على البدن الحيّ الذي فيه حياة، وهذا خطأ، لما سنتعرف عليه من الفرق بين الجسم والجسد في القرآن الكريم.

أما الجسم بمعنى: البدن فيه الحياة، فقد وردت كلمة الجسم مرتين في القرآن الكريم، قال الله عز وجل عن "طالوت" مبينا مؤهلاته ليكون ملكا على بني إسرائيل( إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم)[البقرة /247].
وقال الله عز وجل عن اهتمام المنافقين بأجسامهم على حساب قلوبهم،واهتمامهم بالصورة والشكل على حساب المعنى والمضمون( وإذا رأيتَهم تُعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم،كأنهم خُشُبٌ مُسَنَدَّة).
والجسم هو الطويل العريض العميق وذلك أنه إذا زاد في طوله وعرضه وعمقه قيل إنه جسم وأجسم من غيره فلا تجئ المبالغة من لفظ إسم عند زيادة معنى إلا وذلك الاسم موضوع لما جاءت المبالغة من لفظ إسمه ألا ترى أنه لا يقال هو أقدر من غيره إلا والمعلومات له أجلى.
نلاحظ من الآيتين أنهما تتحدثان عن الأحياء،فطالوت ملك حي، والمنافقون أحياء يتكلمون، وجاءت كلمة (الجسم) معبرة في هذه الحالة على الأبدان الحيَّة.

أما كلمة الجسد: بمعنى البدن ذو جثة هامدة، فقد وردت في القرآن الكريم أربع مرات.
وردت مرتين في وصف العِجل(التمثال) الذي صنعه (السامريّ) من الذهب لبني إسرائيل، ودعاهم إلى عبادته مستغلا غيبة موسى عليه الصلاة والسلام.
قال الله تبارك مُلكُه (واتَّخذ قومُ موسى مِن بعده مِن حُلّيهم عِجلا جسداً له خوار)[الأعراف/148].
وقال الله جلّت حكمتُه ( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي*أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ) [ طه/88-89]

والمرة الثالثة :أطلقت كلمة الجسد على ابن سليمان عليه الصلاة والسلام الذي وُلِدَ مَيْتَاً مُشَوهاً، قال الله وَسِعَتْ رَحْمَتُه( ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب)[ص/34]
وفصَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة المولود الجسد الميْت، فقدر روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود: لأطوفّن الليلة على سبعين امرأة، تحمل كل امرأة فارساً يُجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: إنْ شاء الله، فلم يقل [أي نسي أن يقول ذلك] ولم تحمل شيئا،إلا واحدا) ساقطاً أحد شقيه،فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قالها [إن شاء الله] لجاهدوا في سبيل الله [أي لولد له سبعين ولدا وجاهدوا في سبيل الله]).[صحيح البخاري ،كتاب أحاديث الأنبياء،باب قول الله (ووهبنا لداود سليمان)]  
لقد أراد سليمان-عليه الصلاة والسلام-أن يكون له سبعون ولدا ليكونوا فرسانا مجاهدين في سبيل الله، ولهذا طاف على سبعين زوجة له في ليلة واحدة، ولكنه نسيَ أن يقول: إن شاء الله،فابتلاه الله ولم تَحمِل من السبعين زوجة إلا واحدة،فلما وضعت حَملَها كان مولودا ميْتا ساقطاً أحد شقيه،فأُلقِيَ على كرسيّه جسدا ساكنا وجثة هامدة!

وكذلك نرى الإنسان ساعة أن يموتَ أولَ ما يُنسَى منه اسمه ، فيقولون : الجثة : الجثة هنا ، ماذا فعلتم بالجثة ، ثم تُنسَى هذه أيضاً بمجرد أن يُوضَع في نعشه فيقولون الخشبة : أين الخشبة الآن ، انتظروا الخشبة . . سبحان الله بمجرد أنْ يأخذ الخالق عز وجل سِرَّه من العبد صار جثة ، وصار خشبة ، فما هذه الدنيا التي تكون نهايتها هكذا؟

والمرة الرابعة التي جاءت كلمة (جسد) بمعنى جثة هامدة، هي في بيان أن الأنبياء كانوا رجالا أحياء،ذوي (أجسام) متحركة، ولم يكونوا (أجسادا) هامدة ساكنة لا حراك لها.
قال الله علت كلمتُه (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذِّكْرِ إن كنتم لا تعلمون* وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين) [الأنبياء/7-8]
من هذا نعلم أن كلمة(جسد) في السياق القرآني وردت صفة للجماد وللميْت وكلاهما تجمعها صفة الجثة الهادة التي لا تتحرك، ونُفيت عن النبي الحيّ المتحرك.
وقال أَبو إِسحق في تفسير الآية الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إِنما معنى الجسد معنى الجثة فقط.
والجاسد من كل شيءٍ ما اشتدّ ويبس والجَسَدُ والجَسِدُ والجاسِدُ والجَسِيد الدم اليابس وقد جَسِدَ ومنه قيل للثوب مُجَسَّدٌ إِذا صبغَ بالزعفران.

فالجسم : يطلق على البدن الذي فيه حياة وروح وحركة.
والجسد : يطلق على التمثال الجامد (عجل السامريّ) أو بدن الإنسان بعد وفاته وخروج روحه.

فهذا القرآن الكريم كتاب أُحكمَت آياتُه، وفاضت بالبلاغة والبيان، وجميل الإشارات وغزارة المعانين ورونق المباني، وبديع الرموز.
وحُقَّ للمسلم أن يفخر بالقرآن وبقراءاته وتعلمه وتعليمه، وحُق للمسلم أن يأخذ من القرآن الكريم دستوره وتشريعاته وقوانينه، لأنه كتاب هداية وكتاب إرشاد وكتاب إصلاح وكتاب يبعث في متأمله ومتدبره الإيمان ويزيده إيمانا ويُلقي عن التائه والضال غشاوة التيه والضلال، ويمزق أستار الظلام ليبعث النور في الأرجاء.

والله أعلم.

قال أحدهم:
رأيت النفس أسعد ما تكونُ
به علقتُ آمالاً كباراً
لجيل لا يذل ولا يهونُ
لجيل يقرأ القرآن غضاً
يرتله فتنتعش الغصونُ
يرتله فترتحل المآسي
وللجنات ينبعث الحنينُ
ويتعظ المقصر حين يصغي
ويزجر بالقوارع من يلينُ
لجيل يجعل القرآن نهجاً
ودستوراً وأخلاقاً تبينُ
ونوراً يستضيء به دواماً
وخلاً لا يمخرق أو يخونُ
يصون النفس عن درك الدنايا
ويدعو للمكارم بل يعينُ
به تحيى القلوب فلا تراها
تراودها الوساوس والظنونُ

المصادر:
- القرآن الكريم.
- صحيح البخاري.
- لسان العرب لابن منظور.
- لطائف قرآنية لصلاح الخالدي.
- تفسير الشعراوي آية 88 من سورة طه.
- تفسير الكبير للفخر الرازي.
- الفروق اللغوية لابن هلال العسكري.

No comments :

Post a Comment