Tuesday, December 2, 2014

مفهوم الاعتدال السياسي في الإسلام ومرتكزاته

مفهوم الاعتدال السياسي في الإسلام ومرتكزاته:

يشهد العالم في مطلع القرن الحادي والعشرين ظاهرة فريدة من نوعها تتمثل في تنامي مشاعر التدين لدى جميع المجتمعات ومن كل الثقافات كرد فعل على ما تشهده الهويات الثقافية والحضارية من تحديات خطيرة أفرزتها العولمة بمختلف مظاهرها لاسيما الثقافية منها ، فأصبح التدين يمثل مظهرا من مظاهر الاحتماء الذاتي للمجتمعات تحافظ من خلاله على هويتها المستقلة ، باكتسابها الشعور الجمعي الرابط بين أبناء الدين الواحد.

إن تنامي نزعات الانشقاق والتململ الثقافي في مناطق العالم ذات الهويات الثقافية المتنوعة ما هي إلا دليل على هذه الظاهرة التي سوف تتصاعد مدياتها كما ونوعا في المستقبل لتتخذ أحيانا صورا منتظمة تثري العلاقات الإنسانية عندما تسود قيم التعقل وقواعد الحوار البناء ونزعة الحفاظ على الوحدة الإنسانية ، وفي أحيان أخرى قد تكون الصورة معكوسة عندما تسود القيم البربرية والثقافة البدائية فتحكم العلاقة بين التنوعات الثقافية وتكون النتيجة صراعات دموية شديدة الخطورة تصدم المجتمعات الإنسانية في القرن الحادي والعشرين .

ونحن في عالمنا الإسلامي بدأنا منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي نتلمس ظاهرة التدين المتنامية في أوساطنا الاجتماعية ، لكن وتيرة هذه الظاهرة تسارعت في السنوات الأخيرة لاسيما بعد إفلاس المشروع القومي العربي ، وعدم  تحقيق نهاية مقنعة للصراع العربي - الإسرائيلي  ، وتحول أنظمة الاستقلال وما بعد الاستقلال إلى أشكال مفزعة من الدكتاتورية الصارمة والدولة البوليسية الفاسدة ، لتكون النتيجة (ثورات الربيع العربي) التي ركب الموجة فيها التيارات الإسلامية على اختلاف رؤاها الفكرية ومنطلقاتها الثقافية.

وقد أفرزت السنوات الأخيرة أشكالا مفزعة من العنف بين قوى الإسلام السياسي جعلت الكثير من الناس يتخوفون من مستقبل هذا الصراع وانعكاساته على الشعوب الإسلامية.

وهذه المؤشرات تثير القلق وتقتضي استحضار الجانب المشرق والإنساني من ثقافتنا الإسلامية لتحكيمه في صراعاتنا الحالية والمستقبلية ، وجعله أساسا مقدسا ترتكز عليه أحكامنا المستنبطة وفتاوانا الشرعية من اجل تخفيف حدة الصراع بين المسلمين أنفسهم ، وبينهم وبين غير المسلمين وبما يدفع موجة التغيير المتصاعدة بالاتجاه الصحيح الذي يقود لبناء دولة مدنية أسلامية في أطروحاتها ومبانيها الفكرية ، وعصرية في استيعابها للتنوع الإنساني ، والتطور الحضاري، والمخرجات التقنية الرائعة للألفية الثالثة .

والاعتدال السياسي في الإسلام موضوع ذو أهمية كبيرة في حياة المسلم والمجتمع ككل،لفوائده الكثيرة من إرساء العدالة والقبول بالآخر والتعايش السلمي بين مختلف الديانات والثقافات والاتجاهات غير الضارة بالمجتمع والدولة والوطن.

مفهوم الاعتدال السياسي في الإسلام :

إن الاعتدال مصدر مشتق من الفعل عدلَ، والعدل هو "ما قام في النفوس إنه مستقيم، وهو ضد الجور..
وفي أسماء الله تعالى: العدل وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم..".
يقول صاحب كتاب (معجم تفسير مفردات ألفاظ القرآن): إنه ".. بالعدل قامت السماوات والأرض تنبيها إنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائداً على الآخر أو ناقصاً عنه على مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظماً..".
أما الاعتدال: فهو التوسط بين حالين في الكم أو الكيف وعدم الميل إلى المواقف الطرفية ".. وكل ما تناسب فقد اعتدل ، وكل ما أقمته فقد عدلته.. وإذا مال شيء قلت عدلته أي أقمته، واعتدل أي استقام".

والاعتدال من "أمهات الفضائل"، فهو فضلاً عن الاستقامة والوسطية، يشير إلى "..الاتزان في الحكم والرأي" ، فيقترب معناه اللغوي من معنى السماحة بما فيها من يسر وسهولة واستواء وتجرد من العقد، لذا قيل إن الإسلام يمثل الحنيفية السمحاء.

بناءاً على ما تقدم، فإن الاعتدال يشكل النقيض اللغوي للتطرف، حيث إن التطرف يشير إلى مجاوزة حد الاعتدال وعدم التوسط، وأخذ الأشياء من أطرافها، فالمتطرف من الناس والقوى يمثل العنيف المغالي في قوله أو فعله. فلا تراه إلا مُفرِطاً أو مُفَرِطاً.

والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه، والسياسة فعل السائس، يقال: هو يسوس الدوابَّ إذا قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعيته.." .
 كما قيل عن السياسة، بأنها: ".. تولي الرئاسة والقيادة والإدارة.. ساسة البلاد قادتها، الذين يديرون شؤون البلاد والعباد... سياسي متعلق بإدارة الشؤون العامة وتنظيمها.." .

فالسياسة تنطوي على معنيين:
الأول: ضيق، ينحصر في إطار السلوك الفردي عندما يقوم الإنسان بترويض دابته لتحسين سلوكها ومنع جماحها وعنفها، ويدخل في هذا المعنى ترويض الإنسان نفسه لحملها على الأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن، وإبعادها عما خالف ذلك.

الثاني: واسع، يجعل السياسة فعلاً إنسانياً شاملاً للمجتمع بكل مستوياته من خلال قيادته، وإدارته، والتولي عليه، وتنظيم أموره.

والمعنيان كلاهما، يجعل السياسة فعلاً إصلاحياً، سواء في إصلاح النفس والدابة وما يدخل في بابها، أو في إصلاح المجتمع –قيادة وإدارة وتنظيماً- وهذه النزعة الإصلاحية للسياسة ، تتميز عن النزعة الميكافيلية التي تجعلها عبارة عن ".. نشاط.. مراوغ، بواعثه الوحيدة هي الطموح، وتذوق الربح وإرادة القوة"، وتنظر إليها كفعل قائم على الحيلة والخداع، منطلقه الأساس مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، خدمة لمصلحة الحاكم –فرداً أو جماعة- على حساب مصلحة المحكوم – إنساناً واجتماعاً.
وإذا نظرنا على الحكام والرؤساء والملوك العرب نرى سياستهم قائمة على النزعة الميكافيلية  القائمة على الكذب والخداع والمرواغة وقائمة على خدمتهم وتقديم مصالحهم على مصالح الشعوب والوطن.

طالما أن السياسة كعلم تعرف على أنها:" .. العلم الذي يدرس الدولة.." ، أو ".. علم إدارة الدولة.." ، أو العلم الذي ".. يدرس الناس من حيث هم حاكمين ومحكومين، ومن حيث هم جماعات سياسية متغيرة المصالح والأهداف".

أما السياسة كفن فهي: "فن ممارسة النشاط السياسي.." ، أو "فن ممارسة القيادة والحكم وعلم السلطة أو الدولة، وأوجه العلاقة بين الحاكم والمحكوم"،
أو هي على رأي أحد الباحثين الإسلاميين ذلك الفعل الذي ".. يكون معه الناس اقرب إلى الصلاح وأبعد من الفساد ، وان لم يضعه الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا نزل به وحي..
(أو) هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي".

فإن نطاق السياسة هو من الاتساع والخطورة بحيث يجعلها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً –تأثيراً وتأثراً- بحياة الناس على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم واعتقاداتهم سواء داخل الدولة التي يحملون جنسيتها أو خارجها.

وإذا كان الإسلام قد حض على ممارسة الاعتدال من قبل المسلم في إطاره الفردي: الأكل والشرب، الإنفاق، إشباع الغرائز.. فإنه من باب أولى، استناداً إلى قاعدة المهم والأهم، أن يعطي للاعتدال في ميدان السياسة اهتماماً أكبر لعلاقة الأمر بمجموع الناس، وتأثير ذلك على مقدار قبول النظام السياسي الإسلامي من قبل الخاضعين له، وطبيعة تصوره من قبل الآخرين الذين يعيشون خارج العالم الإسلامي، لاسيما أن الاعتدال يعد من أمهات الفضائل.

 وإذا كان الاعتدال السياسي يمثل: ".. تلك الفضيلة التي تترك يمينها ويسارها يميلان نحو الرذيلة والتطرف، وتقيم ميزاناً للعدل في الحكم، والخلق الرفيع في السلوك..". فإن الاعتدال السياسي في الإسلام يعني: ".. التزام المنهج العدل الأقوم، والحق الذي هو وسط بين الغلو والتنطع، وبين التفريط والتقصير، فالاعتدال والاستقامة وسط بين طرفين هما: الإفراط والتفريط، والاعتدال هو الاستقامة والتزكية والتوسط والخيرية..".

مرتكزات الاعتدال السياسي في الإسلام:  

إن فهم الاعتدال السياسي في الإسلام بشكل واضح يتطلب تحديد المرتكزات الشرعية التي يرتكز عليها ، وهذه المرتكزات تستند إلى ركنين مهمين هما:

الركن الأول: الاستقامة :-

ويقصد بها الاستقامة في الموقف والسلوك الدنيوي مع الطبيعة والمجتمع، والتزام تحقيق "الدنيا المحمودة" التي تقوم على أمرين هما:

الأول: توحيد الله ورؤية قدرته تعالى وربوبيته في الطبيعة وخيراتها، ووعي العناية الإلهية في تيسيرها للإنسان، وتمكين الإنسان منها بتزويده بالقدرات العقلية والجسدية المناسبة.

الثاني: مراعاة التوازن والاتزان، والعدل .. في الأخذ من الدنيا والاستمتاع بها، والتعامل مع الطبيعة ، فضلا عن ضرورة مراعاة الرفق ، والتسامح ، والعفو ، والمعرفة ، وقبول الآخر واحترام قناعاته الفكرية والأعتقادية والسياسية ، وأهلية تحمل المسؤولية ، والحفاظ على الكيان السياسي للدولة الإسلامية ، وعدم تمزيق وحدة المجتمع ، والابتعاد عن الطغيان والبغي والعدوان في العلاقة مع الناس – مجتمعاً وأفراداً.  

وتظهر أهمية هذا الركن في ميدان الحكم والإدارة –ميدان السياسة- من حقيقة أن الناس كما يقول أحد الباحثين: تبحث في الحاكم عن عدله الذي يرسخ الثقة بينه وبين المحكومين. ولا يمكن للعدل أن يسود بدون استقامة الحاكم  ، والتزامه بمنهج الاعتدال السياسي.

الركن الثاني: الوسطية والشهادة:-

إن "الأمة الإسلامية بما هي حاملة لرسالة الإسلام عقيدة، وشريعة، وحضارة، وتجسيد لها ، تقف في المركز الوسط المتوازن، ويتمثل التوازن في المسيرة البشرية بين الإفراط والتفريط، وبين الإسراف من هنا ، والإسراف من هناك"، وهذه الوسطية أهلت الأمة الإسلامية لتمتاز إلى جانب وسطيتها بميزة الشهادة ، ".. فإن الشاهد يجب أن يكون منفصلاً ومتمايزاً عن المشهود عليه (بقية الأمم) ولكن لا يجوز أن يكون منغلقاً عنه، بل يجب أن يكون منفتحاً عليه، متواصلاً معه في آن واحد".

لذا تجد إنه في الوقت الذي يقول سبحانه وتعالى: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..{، فإنه سبحانه وتعالى يقول: } كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ..{.

إن الاعتدال السياسي للمسلم –حاكماً ومحكوماً- لا يقصد به أن يكون في منتصف الطريق بين الخير والشر، أو بين الله سبحانه وتعالى والشيطان عليه اللعنة، بل هو دائماً وأبداً مع الله عز وجل، وفي مركز الحق والخير، ليؤهله ذلك لدور الشهادة.
وعليه يكون الاعتدال السياسي الإسلامي هو رديف الأخذ بأفضل الأفكار والرؤى والمعتقدات، والسبل وأنماط السلوك والمواقف السياسية ، لإدارة الدولة وإصلاح شؤون الناس، تعزيزاً للثقة بين السلطة والشعب.

  بناءاً على ما تقدم، فالاعتدال السياسي في الإسلام هو: المنهج السياسي الإسلامي الذي يكون مرتكزا على الاستقامة والوسطية والشهادة في الدين والدنيا ، ومعتمدا النزعة الإصلاحية للسياسة في القيادة ، والحكم ، والإدارة ، بعيداً عن الغلو والتطرف من جهة ، وعن الابتذال والتقصير من جهة أخرى ، لبناء نظام حكم صالح يؤهل المسلمين ليكونوا الأمة الأكثر خيرية وسموا بين الأمم الأخرى.

والله أعلم

المصادر:
- ابن منظور، لسان العرب ،ط3، بيروت ، دار إحياء التراث العربي، بلا تاريخ نشر.
-  محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1981
- إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، ط2، استانبول – تركيا، دار الدعوة، 1989.
- الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، ط1، بيروت، مكتبة ناشرون، 2004.
- سميح عاطف الزين، معجم تفسير مفردات ألفاظ القرآن، بيروت، الدار الأفريقية – العربية، 2001م.
-د. الاعتدال السياسي في الإسلام،خالد عليوي العرداوي ،2012م.
- جان ماري دانكان، علم السياسة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1997.
- صايل زكي الخطايبة، مدخل إلى علم السياسة، ط1، الأردن، دار وائل للنشر والتوزيع، 2010
- ناجي عبد النور، منهجية البحث السياسي، الأردن، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، 2010
- سلوى السعيد فراج وريمان أحمد عبد العال، مقدمة في العلوم السياسية، القاهرة، جامعة قناة السويس، بلا تاريخ نشر
- باقر شريف القرشي، النظام السياسي في الإسلام، ط4، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1987
- محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي، ط2، بيروت، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1999
- جعفر البناوي، التعايش في المجتمع الإسلامي: دراسة في العلاقات الإنسانية للمجتمع الواحد، ط1، بيروت، دار الخليج العربي للطباعة والنشر، 1999م.

No comments :

Post a Comment