Sunday, November 29, 2015

ظواهر ومظاهر تأثير ترجمة علوم العرب والمسلمين إلى لغات أوروبا في النهضة الاوربية وحضارتها

ظواهر ومظاهر تأثير ترجمة علوم العرب والمسلمين إلى لغات أوروبا في النهضة الاوربية وحضارتها:
لا يغرنك تقلب الذين يدعون العلم والمعرفة في أقوالهم ومصنافاتهم ومؤلفاتهم على أن الحضارة الإسلامية لم تفد الغرب لا نهضتها ولا حضارتها.
فهؤلاء قوم أُتْخِموا بالحقد حتى أصبحوا لا يرون إلا الظلام، وأُشْبِعُوا بالبغضاء حتى أضحوا لا يرون سوى السواد، ومالوا عن الحق فأصبح في مؤلفاتهم عوجا ظاهرا، واختلافا كثيرا كبيرا.
وطالب الحق لا يهمه سياسات بلاده ولا نزوات قادته ولا حقد علمائه، فالحق أحق أن يقال وأن ينشر وأن يُتَّبَع.
وما عانته أوروبا في عهود ظلمتها بقي راسخا في الذاكرة الجمعية لديهم وفي أعماقهم وبواطنهم، فهم إلى الآن يشعرون بالسوء والمذلة؛ لأنهم استفادوا من حضارة العرب والمسلمين في نهضتهم وابداعاتهم وابتكاراتهم في شتى مناحي حياتهم وكافة علومهم، وإلى الآن يصيبهم النغص والتمعض والمضض جراء هذا الأمر، فيسعون للنكران والانكار واللعب بالكلمات والمشاعر والعواطف فلا يعترفون بفضل الحضارة الاسلامية والعربية.
بينما الحقيقة عكس ذلك، والصواب خلاف ما يقولون، وقد اعترف قلة منهم من المنصفين بفضل الحضارة العربية والاسلامية على أوروبا ونهضتها، يوم كانت أوروبا تعيش في عصورها الوسطى المظلمة السوداوية القاحلة، كان المسلمون والعرب في أبهى عصورهم من النور والمعرفة والعلم والابداع والاختراع والتقدم والحضارة.
وما نراه في أوروبا من حضارة وتقدم هو كقشرة البيضة المتعفنة الظاهرة البياض، فإن أحدثت فيها ثقبا رأيت داخلها العفن وعصور الظلمة والعصور الوسطى قابعة فيهم متمكنة منهم.
كان لا بد من هذا التمهيد لبيان سبب نكران الكثرة الطاغية الباغية المتعجرفة المتكبرة فضل الحضارة الإسلامية، ومنبع هذه النكران هو: عدائهم للدين الإسلامي أولا وثانيا وثالثا ومليونا ومليارا، والسبب الثاني: شعورهم بالنقص وعقدتها برغم ما وصلوا إليه من تقدم وحضارة، والسبب الثالث: تمكن أخلاق وصفات العصور الوسطى المظلمة منهم في بواطنهم وخفاياهم، وتظهر للعلن كلما شعروا بضر صغير أو أبصروا انتشارا للإسلام في ديارهم أو وجدوا تكاثر المسلمين في بلدانهم.
وغير ذلك من الأسباب التي تدعوهم لنكران فضل الحضارة العربية الإسلامية عليهم وعلى حضارتهم وما وصلوا إليه.
وكيف حصل لهم هذا التقدم وكيف أثر في نهضتهم.
من أهم الاسباب هو الترجمة، ترجمة علوم العرب والمسلمين ومؤلفاتهم العلمية والفلسفية إلى لغات أوروبا المختلفة.
وهذا ما سنوضحه في هذا الموضوع.
ظواهر ومظاهر تأثير ترجمة علوم العرب والمسلمين إلى لغات أوروبا في النهضة الاوربية وحضارتها:
1- حركة الترجمة ومراحلها:
إن حركة الترجمة ، والتي تعد قناة غير مباشرة ، ولكنها أثرت تأثيراً كبيراً في نقل أوربا من عصر الظلام والتخلف إلى عصر الانبعاث والتقدم.
مرت حركة الترجمة بدورين :
 الدور الأول : والتي تمت فيه ترجمة الكثير من المخطوطات إلى العربية بما في ذلك كتاب في علم الزراعة ،  كتبه (كولوميلا) وكتاب تاريخ عام ألفه (اوروسيوس) ، وكتاب يبحث في التنجيم ، وآخر في الاشتقاق لمؤلفه (ايزدور) .
 وقد وقع على عاتق النصارى أحيانا القيام ببعض هذه الترجمات .
كما وتم ترجمة عدد كبير من المؤلفات إلى العربية لفائدة العناصر المستعربة من النصارى ، وليس للمسلمين فقط ، فقد تمت ترجمة ثلاث نسخ من المزامير ، من بينها واحدة ترجمها حفص القوطي في سنة 276 هـ / 889 مـ شعراً .
 وكان المقصود بها خصيصاً ان تحل محل نسخة نثرية غير فصيحة كانت دارجة الاستعمال في ذلك الوقت ، وكذلك تمت في سنة 357هـ/ 967 مـ ترجمة تقويم كنسي ألحق بأخر عربي يبحث في تقسيم السنة على أساس الثماني والعشرين دورة فلكية المعروفة باسم (منازل القمر) ، وأطلق على الترجمة اسم (تقويم قرطبة).
أما الدور الثاني ، فيشمل الترجمة من العربية إلى اللاتينية ، ويبدأ من منتصف القرن الخامس إلى أخر القرن السابع الهجري / منتصف القرن الحادي عشر إلى أخر القرن الثالث عشر الميلادي ، وقد مر هذا الدور بمرحلتين:
 الأولى: تمت فيها ترجمة العلوم العربية المنقولة عن العلوم اليونانية .
 والمرحلة الثانية: ترجمة العلوم العربية الإسلامية.
كانت أوربا لا تمتلك من العلم اليوناني إلا القليل تمثل بمختصرات هزيلة وضعت منذ القرن الخامس الميلادي والى القرن الثامن الميلادي.
 لذا بقيت الدراسة في أوربا ضئيلة محصورة في فئة قليلة من الرهبان ، ولم تنتعش وتتطور إلا بعد تمثلها للعلوم العربية ولاسيما التي تشمل على أصول علوم اليونان التي ترجمها العرب المسلمين في عصر ازدهار حضارتهم.
2- حركة ترجمة نشيطة لألاف من المجلدات العربية الإسلامية:
بعد ان استرد الأسبان بقيادة الفرنسو السادس طليطلة عام 478هـ/ 1085 م ، واتخاذها كعاصمة لمملكة قشتالة ، قامت فيها حركة ترجمة نشيطة فقد امتازت هذه المدينة بكثرة مكتباتها ، والتي حوت ألاف من المجلدات التي انتقلت إليها من المشرق ، فضلاً عن ذلك بقاء الثقافة العربية فيها حتى بعد ان استردها الأسبان.
 وقد تم القيام بتخطيط برنامج شامل للترجمة عن طريق تأسيس معهد لترجمة الأعمال العربية إلى اللاتينية ، ويرأسه كبير الشمامسة في طليطلة المدعو (دومينيكوس غونديسينوس) والذي يذكر بالمصادر العربية بـ(دومنجو غنصالفة) والذي برز نشاطه ما بين عام 1130والى عام 1180 م ، والذي يعد من أشهر رجال الترجمة في العصر الوسيط من العربية إلى اللاتينية عن طريق الاسبانية العامية.
فقد كانت الطريقة في الترجمة ان يقوم يهودي مستعرب – من اشهرهم في معهد الترجمة بطليطلة أبراهام بن غزرا – بترجمة النص العربي شفوياً إلى اللغة الاسبانية العامية ثم يتولى غنصالفه الترجمة اللاتينية ، ومن بين ما ترجمه غنصالفة على هذا النحو بعض مؤلفات الفارابي ، وابن سينا ، والغزالي.
3- مشاركة عدد كثير من المترجمين من مؤلفات العرب والمسلمين إلى لغات أوروبا:
وكان يعمل بمعية غنصالفة عدد من المترجمين توجهوا من أنحاء أوربا إلى طليطلة منهم الايطالي (جيرار الكريموني) الذي وصف بأنه ((الشماس)) في إحدى وثائق كادرائية طليطلة المؤرخة في 11 آذار مارس 1162 م ، حيث يدعى (جيرادوس المعلم) في وثيقتين أخريين من وثائق الكاتدرائية بتاريخ آذار/ مارس 1174 م ، وآذار/ مارس 1176 م ، والوثائق الثلاثة ممهورة بتوقيع غنصالفة .
 وقد قام جيرارد بترجمة كتاب الفارابي (تصنيف العلوم) ، وترجم عدة مؤلفات لأرسطو ، وبعض الشروح على ارسطو لمؤلفين عرب ومؤلفين إغريق سبق وان ترجمت اعمالهم إلى العربية .
كما ترجم عن العربية كتباً لأبقراط وجالينوس .
وترجم كتابين اصيلين في العربية هما:
- (القانون في الطب لابن سينا).
- وكتب التصريف للزهراوي الذي يعد القسم الأخير منه أشهر بحث في الجراحة.
* واشترك (غنصالفة) مع رفيقه (افيندوف) ، و (جوهان الاسباني) بترجمة مصنفات الدارسين العرب الذين لخصوا ، واعادوا ترجمة فلسفة ارسطو ، كمؤلفات ابن سينا ، وابن جيبيرول ، والغزالي.
* وشاركه أيضا المترجمان الانكليزيان (روبرت القيطوني و ادلار الباثي) فقد اشتهر ادلار الباثي بترجمة جداول علم الفلك لمسلمة المجريطي عام 1126 م.
4- استمرار نشاط حركة الترجمة في أوروبا لمؤلفات علماء العرب والمسلمين،جهود شخصية وترجمة رسمية:
استمر نشاط حركة الترجمة في طليطلة في القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي ، وهناك دليلان على هذا النشاط .
الدليل الأول : نقل حصيلة ذلك الازدهار في الفلسفة فـي اسبانيـا الإسلاميـة ففي عهد سيطرة الموحدين على المغـرب و الأنـدلس ( 543 – 668هـ / 1146- 1269م ) حدثت ثورة أصولية ارسطوية لم يسبق لها مثيل في أي مكان أخر من العالم العربي الإسلامي.
وكانت الشخصية الرئيسية في هذا المشهد ابن طفيل (ت: 581 هـ / 1185 م ) الطبيب الرسمي في بلاط زعيم الموحدين في قرطبة ، ومؤلف الرواية الفلسفية (حي بن يقظان).
 وقيام البطروجي بتأليف كتاب سماه باسم (حركات الاجرام السماوية) المكتوب حوالي (600هـ / 1200 م ) .
والكتاب محاولة ثورية في علم الفلك تدعو إلى استبعاد نظام بطليموس القديم حتى يحل محله أنموذج يتفق مع (فيزيقيا) ارسطو.
ثم قيام ابن رشد (ت : 594 هـ / 1198 م ) عقب ذلك بالمشروع الأكثر طموحا وهو يضع ثلاثة مستويات من الشروح والتعليقات على جميع مصنفات ارسطو ، وأضاف إليها فيما بعد تعليق على جمهورية افلاطون .
ومع ان الارسطوطاليسية الأندلسية لم تترك إلا أثراً في الدراسات العربية الإسلامية اللاحقة، إلا إنها تركت أثرا قليلا في الفلسفة اللاتينية والعبرية والعلوم الأخرى.
 وفي هذا المناخ الثقافي في قرطبة ، تشكلت فلسفة ابن ميمون (ت: 600هت/1204م).
 وبعد سنوات معدودات على تأليف مصنفات كل من البطروجي ، وابن رشد تمت ترجمتها إلى اللاتينية والعبرية.
حيث قام بالترجمات الأولى في اسبانيا (مايكل سكوت) واليه تعزى أقدم ترجمة لابن رشد،والتي بدأها في اسبانيا ثم استكملها حين انتقل إلى ايطاليا.
والدليل الثاني: نشأة الترجمة الرسمية والمقصود بها القيام بالترجمة بصفتها جزءاً من السياسة العامة للدولة،
 اما بهدف تفخيم الامة الاسبانية الحديثة الظهور،
او بهدف رد المسلمين الاسبان الى النصرانية  وربط الكنائس الشرقية بروما بعد توحيدها، ولتحقيق ذلك، كان لا بد من تعلم العربية،
فقد أطلع بطرس الجليل (رئيس دير كلوني) اثناء زيارته الى اسبانيا في مهمة دينية عام 1141م على بدايات الصراع المرير بين الإسلام والنصرانية في الاندلس، وكان ذلك اثناء حكم الموحدين وتوصل الى ان القوة المسلحة لوحدها لا تجدي نفعاً في محاربة الإسلام، وانما ينبغي اللجوء الى المنطق،
وذلك بفهم الخصم اولاً، والاصغاء الى حججه وجدله ثانياً،
وبما ان القرآن الكريم هو المرجع الاول لدى المسلمين، فقد تعين على الاوروبيين فهمه ولتحقيق هذه الغاية قام بطرس الجليل بتكليف (روبرت القطيوني) بترجمة القرآن الى اللاتينية وأجزل له العطاء، وقد لقيت ترجمته رواجاً واسعاً.
هذا فضلاً عن قيام بطرس بشراء كل المخطوطات المترجمة من قبل هرمان الكارنثي، وروبرت القطيوني وبيتر الطليطلي، والتي تعرف بـ(مجموعة طليطلة) والتي هي عبارة عن ترجمات لمخطوطات عربية عن الإسلام، كما ضمت القرآن الكريم وحياة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، ووصفاً للخلفاء الأولين، ومناظرة بين رجل نصراني ومسلم تعرف بـ(مناظرة الكندي)، وقد بقيت هذه الترجمات مرجعاً ثميناً للغربيين الذين يودون فهم الإسلام،
ففي القرن السابع عشر الميلادي كانت لا تزال ترجمة روبرت القطيوني للقرآن الكريم مستعملة لدى البعثات التبشيرية النصرانية، كما غدا رد الكندي في المناظرة المشهورة شائعاً في العصر الحديث.
وبعد مرور خمس سنوات على هزيمة الموحدين في معركة العقاب عام 609هـ\1212م، والتي تعد بداية النهاية لسلطة الموحدين في الاندلس توالى سقوط حواضر الاندلس الواحدة تلو الاخرى كقرطبة واشبيلية ولم يبق سوى غرناطة مملكة إسلامية وحيدة، إنتاب شعوراً عظيماً بالثقة لأساقفة وملوك الاسبان لجعل شبه جزيرة كاملة في اسبانيتها ونصرانيتها،
فانتشرت حركة الترجمة من العربية الى الاسبانية ولا سيما في عهد الملك الفونسو العاشر الحكيم، ملك ليون وقشتالة (1252-1284م)، فترجمت كتب كليلة ودمنة، وعشرات من كتب الفلك ولم تكن لغة الترجمات هي الاسبانية فحسب، بل لقد جعلها تبدو وكأن المؤلفين انفسهم كانوا من الاسبان ايضاً
فقد سمي كتاب "غاية الحكيم" في التنجيم لمسلمة بن احمد المجريطي (ت:397هـ\1007م) مثلاً بـ"الحكيم الاسباني".
 وكان لهذا اثره في قيام اللغة الاسبانية اولاً، ومن ثم تقدم الدراسات العلمية في اسبانيا وانتقالها الى اوروبا ثانيا، وأنشأ الفونسو الحكيم عام 1254م جامعة اشبيلية وخصصها لدراسة العربية واللاتينية.
والله أعلم
المصادر:
- السامرائي، دراسات في تاريخ الفكر، ص384-388، مارغريتا، اسهامات حضارية، الحضارة العربية في الاندلس:2/1478.
- تشارلز بيرنيت، حركة الترجمة من العربية، في القرون الوسطى في اسبانيا، ترجمة: عمران ابو حجلة، الحضارة العربية الاسلامية في الاندلس، تحرير: سلمى الخضراء الجيوسي (ط2، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،1999): 2/1442
- عبد الرحمن بدوي، دور العرب في تكوين الفكر الاوربي (بيروت: 1979)، ص7.
- جلال مظهر، حضارة الاسلام، ص523، دي سي ، اوليري، الفكر العربي ومركزه في التاريخ، ترجمة: اسماعيل البيطار (بيروت: 1972)، ص234.
- تشارلز بيرنيت، حركة الترجمة، الحضارة العربية: 2/1457.
- عبد الرحمن بدوي، دور العرب في تكوين الفكر الاوربي، ص، .10
- غوستاف لويون، حضارة العرب، ص677.
 - هونكة، شمس العرب تسطع على الغرب، ص126وما بعدها.
- حكمت نجيب، دراسات في تاريخ العلوم عند العرب (الموصل، دار الكتب للطباعة والنشر، 1977)، 148.

No comments :

Post a Comment