Thursday, April 14, 2016

التنمية الاقتصادية من منظور إسلامى: مفهوم العمارة في الإسلام



التنمية الاقتصادية من منظور إسلامى: مفهوم العمارة في الإسلام
إن التنمية مصطلح حديث ، وهي أفكار بشرية جاءت فى فترة من تاريخ الانسانية وظهرت في مجتمع له مميزاته الثقافية ومعتقداته الفكرية من أهمها إبعاد الدين عن النشاط الاقتصادى العام (فقه المعاملات ) .
ولقد جاءت هذه الافكار العلمانية في ظل استعمار العالم العلمانى للمجتمع النامى ، والاستيلاءه على خيراته . مما خلق تخلفا مادياً وروحياً فى هذا المجتمع ؛نتيحة لازدواجية المعاير  والتبادل غير المتكافىء  للموارد ، واحتكار التكنلوجيا ؛ فضلا عن تدهور البيئة ونقص الغزاء واتساع دائرة الفقر فى العالم وإهدار موارد الاجيال القادمة .
وهذه دراسة علمية تحليلية تتناول نظرة الاسلام للتنمية الاقتصادية من خلال ماورد فى القرآن والسنة المطهرة من مفاهيم تعبر عن التنمية الاقتصادية من وجهة نظر شرعية . ومن خلال أفكار وآراء الفقهاء والمفكرين المسلمين ونظرتهم لمفهوم التنمية من منظور اسلامى . من أجل الوصول إلى القواعد الشرعية التي من خلالها يمكن الاجابة على هل هنالك مفهوم اسلامى محدد للتنمية الاقتصادية ؟ وهل للتنمية فى الاسلام  مبادئه تلتزم بها ؟ وأهداف تسعى لتحقيقها ؟ وهل هنالك خصائص تميزها عن الافكار الوضعية السائدة ؟ 
      وبالتالى أصبح الفكر التنموى السائد غير صالح  لكى يخدم مصالح الدول النامية بصفة عامة ، والدول الاسلامية على وجه الخصوص . بل ثبت أن الفكر التنموى الوضعى كان أحد أهم عوائق التنمية فى هذه الدول . كما ثبت أيضاَ أنه سبب للأزمات الاقتصادية المتنوالية فى العالم أجمع . وأصبح البحث عن أفكار غير الأفكار التنموية السائدة ، هدف تنشده كل مجتمعات العالم المعاصر فضلا عن المجتمعات الاسلامية .
      وللبحث عن أفكار تنموية متسقة مع قيم الشريعة الاسلامية . لابد من التمسك بالقيم التنموية التي أرساها الله تعالى فى كتابه الكريم وفسرتها السنة المطهرة . واجتهد فقهاء المسلمين فى إبرازها ، والدعوة للتعامل بمقتضاها . وهذا يقتضى دراسة هذه القيم التنموية ، من حيث المفاهيم والمبادىء والأهداف والخصائص ، لإبرازها للمجتمع للعمل بها كبديل اسلامى للقيم الوضعية السائدة .
مفهوم العمارة في الإسلام :
لم يرد لفظ التنمية الاقتصادية في الكتاب والسنة . ولكن كثيرا ما  تناول  القرآن الكريم السلوك الاقتصادي وإحاطته به ، وفرضية أن يكون هذا السلوك رشيداً في مجال الكسب والإنتاج والاستهلاك . ولم يستخدم القرآن الكريم مصطلح النمو أو التنمية ، ولكن هنالك العديد من المصطلحات التى تدل على النمو أوالتنمية والتي منها : الإعمار، والابتغاء من فضل الله ، والسعي في الأرض ، وإصلاح وإحياء الأرض وعدم فسادها ، والحياة الطيبة ، والتمكين .
ويعتبر مصطلح العمارة ، والتعمير من أصدق المصطلحات تعبيراً عن التنميةالاقتصادية فى الاسلام .
لقد جاء فى الاسلام لفظ "عمارة الأرض" كمفهوم ذو دلالة أوسع من المفهوم الوضعى للتنمية التى تنحصر فى الانتاج المادى وتغفل الحاجات الروحية ويختل فيها التوزيع ، ولايتمتع كل الافراد بحد الكفاية فى الدخل . قال تعالى : ((..هوأنشأكم من الأرض واستعمركم فيها..)) . فالآية تؤكد على وجوب عمارة الأرض . واستعمركم فيها يعني أمركم بعمارتها بما تحتاجون إليه . كما قال الجصاص أن ذلك فيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغرس والأبنية ".
والطلب المطلق من الله تعالى يكون على الوجوب" .
فاستعمركم فيها أي جعلكم عمارها وسكانها .
قال مجاهد : ومعنى استعمركم أعمركم من قوله أعمر فلانا داره فهي له عمري .
وقال قتادة : أسكنكم فيها .
وقال الضحاك : أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار . وقيل المعنى : ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار .
وقال ابن العربي : قال بعض علماء الشافعية :  الاستعمار طلب العمارة ، والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب . فقوله تعالى استعمركم فيها، خلقكم لعمارتها .
 وقال الشوكانى فى فتح القدير : هو أنشأكم من الأرض أي ابتدأ خلقكم من الأرض لأن كل بني آدم من صلب آدم وهو مخلوق من الأرض ، واستعمركم فيها أي جعلكم عمارها وسكانها .
ويقول الزمخشرى فى الكشاف هو أنشأكم من الارض : لم ينشئكم منها إلا هو ولم يستعمركم فيها غيره ، وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب ، واستعمركم فيها أمركم بالعمارة ، والعمارة متنوعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه . وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وعمروا الأعمار الطوال مع ما كان فيهم من عسف الرعايا فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم فأوحى إليه إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي .
         ولقد استخدم على بن أبى طالب لفظ العمارة للدلالة على معنى أعمق للتنمية الاقتصادية بمفهومها المعاصر فى خطابه لواليه في مصر مالك بن الحارث الأشتر  : جاء فيه : " وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب خراجها ، لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة . ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلا قليلاً " .
كذلك استخدم قاضي القضاة " أبي يوسف " لفظ العمارة فى نصيحته لأمير المؤمنين هارون الرشيد جاء فيها : " إن العدل وإنصاف المظلوم ، وتجنب الظلم مع ما في ذلك من الأمر ،  يزيد به الخراج ، وتكثر به عمارة البلاد ".
وكذلك فإن "أبو يوسف" في كتابه (الخراج) جعل الإعمار والتنمية في مقابل الخراب والفساد ونادى بدور متقدم للدولة في العمران . كما دعا إلى تقاسم تكاليف (النمو) بين الفرد والدولة من أجل تخفيف كاهل التنمية ، وسحب المواطن عن الكسل والإتكال ، والدفع به للمساهمة في دور عمراني مع بقية أفراد المجتمع .
 ويرى  " الماوردي " : أن من مستلزمات السلطان عمارة البلدان باعتماد مصالحها وتهذيب سبلها ومسالكها . غير أنه يلزمها بالعدل ، حيث ينعدم نجاح المشروع الإنمائي إذا لم يصطبغ بالعدل الشامل الذي يعمر البلاد وينمي الأموال .
ويقول المقريزى : " عندما يتقلص العدل مع هيمنة الفساد والحبور والاغتصاب في كل مواطن الحكم والإدارة يتوقف الإعمار وتحدث الأزمات ويحل البوار بالديار " .
ويقوم مفهوم عمارة الارض فى الاسلام على  شرط الخلافة فى الارض . قال تعالى : (وقال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) وتبعية الاستخلاف تعني تسخير الموارد الطبيعية (الأرض ) للانسان ليعمل على انتاج  السلع والخدمات لخدمة الخلق المستخلفين .
وتمكين الانسان من هذه السلع والخدمات ، تمكين استعمال أو ملكية انتفاع ، قال تعالى (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون)وعمارة الارض لا تقوم إلا بالعمل لان العمل هو شرط الملكية . وكل عمل ابن آدم محاسب عليه. قال تعالى (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) .
ويتبع الاستخلاف أيضاً اتباع الضوابط التى وضعتها الشريعة لتنظيمً شئون الانتاج والتى يمكن حصرها فى الآتى :-
1- الايمان  بأن الله هو المالك الحقيقي لهذه الارض  وهو المتصرف فيها كيفما شاء والإنسان مستخلف عليها . فعليه استخدامها وتنميتها بالقدر الذي يمكنه من عمارة الأرض التي استخلفه الله فيها وأمره بعمارتها قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم..) جاء في تفسير ابن كثير: (أي جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف . كقوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) وكقوله تعالى: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأرض ..).وقوله عز وجل: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
2- الايمان بان الله سخر للإنسان ما في الكون لخدمة الإنسان ولمزاولة النشاط الاقتصادي قال تعالى: (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ* وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).
 جاء في تفسير القرطبي: (الله الذي خلق السموات والأرض أي أبدعها واخترعها وأنزل من السماء . أي من السحاب ماء فاخرج به من الثمرات أي من الشجر ثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الانهار يعني البحار العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا والبحار المالحة لاختلاف المنافع من الجهات . وسخر لكم الشمس والقمر دائبين أي في اصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره . والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية وقيل دائبين في السير امتثالاً لأمر الله والمعنى يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران . روى إبن عباس : وسخر لكم الليل والنهار أي لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار كما قال : ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله . وقوله تعالى وآتاكم من كل ما سألتموه أي اعطاكم من كل مسئول سألتموه . وإن تعدوا نعمة الله أي نعم الله لا تحصوها ولا تطيقوا عدها ولا تقوموا بحصرها لكثرتها . وهذه النعم من الله فلم تبدلون نعمة الله بالكفر وهلا استعنتم بها على الطاعة إن الإنسان لظلوم كفار ).
3- أن يؤدي الخلق حقوق المال للمجتمع في صورة الصدقات المفروضة ، وعلى رأسها الزكاة والصدقات التطوعية والكفارات وغيرها من النفقات، تحقيقاً لعدالة التصرف في المال وإقامة للتكافل الإجتماعي . والحديث عن النبي  محمد صلى الله عليه وسلم قال : " اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غنى ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ".
4-إستغلال الموارد فى المساعدة الانسان على عبادة الله تعالى . فعمارة الارض لاتركز على الحاجات المادية فقط . وانما هنالك الحاجات الروحية التى هى أصل الحياة قال تعالى : ( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون * لا أريد منهم رزق ولا أريد أن يطعمون ).
ولقد جاء فى تفسير القرطبى : ليعبدون ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا . ما أريد منهم من رزق من صلة أي رزقا بل أنا الرزاق والمعطي . وقال بن عباس وأبو الجوزاء أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها . وقيل المعنى ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم إن الله هو الرزاق .
فعمارة الأرض توازن بين متطلبات الروح وحاجات الجسد لضمان حياة فاضلة مقبولة عند الله تسهل الطريق الى الجنة .
5- تنمية المال عن طريق السعى والضرب فى الارض وابتغاء فضل الله، قال تعالى : (إذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الارض وابتغوا من فضل الله) .
جاء فى تفسير القرطبى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض هذا أمر إباحة ، كقوله تعالى( وإذا حللتم فاصطادوا ) يقول إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم  وابتغوا من فضل الله ، أى من رزقه .
وعلى ضوء ما تقدم يمكن تعريف التنمية الاقتصادية فى الاسلام  بأنها هى : " إستغلال المجتمع لخيرات الأرض (النعم التى سخرها الله تعالى له) بالعمل الصالح تنفيزاً لشرط الخلافة والتمكين ، وتحويلها  إلى سلع وخدمات لإشباع الضروريات عند حد الكفاية لكافة أفراده عبر تشغيل كامل وتوزيع عادل " .
     كما يمكن تعريف التخلف الاقتصادى بأنه هو : " عدم قدرة المجتمع (المستخلف) للوفاء بحاجاته الضرورية . مما أدى إلى نقص فى حد الكفاية النسبى لأفراده ، بسبب عدم قيامه بواجب الخلافة (عمارة الأرض ) وعزوفه عن استثمار الموارد المتاحة (الخيرات والنعم المسخرة له) " .
المصادر والمراجع:
- رؤية الاسلام لحل المشكلة الاقتصادية ، حسن محمد ماشا مجلة كلية الاقتصاد والعلوم الادارية العدد الاول 2008م جامعة القرآن والعلوم الاسلامية الخرطوم السودان .
- د. محمد عجيمية ود. علي الليثي : التنمية الاقتصادية ، مفهومها ، نظرياتها سياستها ، مطبعة دار الجامعة ،الإسكندرية – مصر 1998م.
-   التنمية الاقتصادية من منظور إسلامى  د. حسن محمد ماشا عربان.
-أحكام القرآن للجصاص .
- تفسير القرآن للقرطبي .
- فتح القدير للشوكاني.
-الكشاف للزمخشري.
- نهج البلاغة ،جمع الشريف الرضى ، شرح الإمام محمد عبده ، الاعلمي للمطبوعات- بيروت- بدون ت ج3 - لسان العرب لابن منظور.
- أبو يوسف: كتاب الخراج،  دار المعرفة ، بيروت، بدون تاريخ.
- المارودي (ادب الدنيا والدين) تحقيق مصطفى السقا ، الطبعة الخامسة، مكتبة مصطفى  البالي 1987م.
- المقريزي " تاريخ المجاعات" دار ابن الوليد، بدون تاريخ.
- تفسير ابن كثير .
- صحيح البخاري .

No comments :

Post a Comment