Saturday, December 23, 2017

دليل القرآن الكريم في الاعتدال السياسي



دليل القرآن الكريم في الاعتدال السياسي:
    إن التحليل الإجمالي للنص القرآني، يكشف عن أدلة كثيرة تشير إلى الاعتدال بمعناه الواسع: كالتركيز على اليسر ورفع العسر والحرج في الدين، والتخفيف عن الإنسان، والحث على التوازن والاستقامة في جميع الأمور الدينية والدنيوية.
 لكن هذا المعنى لن يتم التعمق والتوسع فيه سواء في هذا المطلب أو المطالب الأخرى ، لأن هدف البحث هو الاعتدال بمعناه السياسي المرتبط بإدارة الدولة، والمواقف السياسية المتباينة، والذي يجعله الإسلام مرتكزاً على الاستقامة: أي الإقرار بعبودية الله، والعدل، والإنصاف، والحكمة، والرحمة، والاتزان والتوازن.. من جانب، وعلى الوسطية والشهادة: أي الانطلاق من مركز الحق، والخير، والفضيلة، والإصلاح لبناء نظام حكم صالح، يمنح الأمة أهلية الشهادة على غيرها من الأمم من جانب آخر.
والاعتدال السياسي بهذا الفهم الإسلامي توجد له أدلة كثيرة في كتاب الله تعالى، إذ حارب النص القرآني التطرف، وعده انحرافاً من الأمة التي تقول به كما في قوله تعالى: } يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ.. {.
 وقد اتفقت كتب التفسير على أن المقصود بالغلو في هذه الآية المباركة هو تجاوز الحد بالإفراط أو التفريط من خلال تجاوز الحق المبني على توحيد الله ، وأنه سبحانه واحد أحد لا شريك له ولا ولد ، فذهب بعض المفسرين إلى أن الخطاب موجه إلى النصارى فقط كونهم غالوا في المسيح عليه السلام عندما رفعوه إلى مقام الآلوهية متأثرين بالعقائد الوثنية.
بينما ذهب آخرون إلى أن الخطاب موجه – أيضا – إلى اليهود الذين فرطوا في تقدير المسيح عليه السلام فانزلوه إلى مستوى الحضيض عندما أنكروا نبوته واتهموا أمه الطاهرة عليها السلام .
ويتكرر هذا الانتقاد القرآني للغلو عند أهل الكتاب في قوله تعالى: } قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}.
وإذا كان الغلو في الدين ( إفراطا و تفريطا ) منهي عنه ، فان البديل القرآني له هو الاعتدال بشكله العام والسياسي الذي يتمثل ركنه الأول بالاستقامة التي أكد عليها الخطاب القرآني في آيات كثيرة منها قوله تعالى: }اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{، وقوله تعالى: } وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُون{، وقوله تعالى: } وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{، وقوله تعالى: } وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{ .
وتتفق كتب التفسير على أن المقصود بالطريق المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه وهو طريق توحيد الله وطاعته ،والمقصود به واحد من معان عدة هي : كتاب الله أو الإسلام  أو دين الله  أو النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه فضل حمل المعنى على العموم لتدخل كل هذه المعاني فيه ، فيكون الصراط المستقيم هو طريق الحق القائم على عبودية الله وطاعته مما يجعل كل طريق من طرق الحق طريقا مستقيما طالما يحقق نفس الغاية ، وهذا تفسير غاية في الروعة وسعة الأفق الفكري .
وابن كثير وسيد قطب (رحمهما الله) أكدا – أيضا -في تفسيريهما هذا المعنى عندما جعلا المقصود من الطريق المستقيم هو طريق توحيد الله تعالى وطاعته فيما أمر ونهى . وأعطى مفسر لتفسير الطريق المستقيم فهما إضافيا عندما قال : ".. الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير واستقام ، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة .. صراط الله ، وهو صراط التوحيد والمعرفة والتوسط بين الأضداد في الأخلاق والتزام صوالح الأعمال .. ".
إن ربط معرفة الحق من الناحية القلبية والروحية بالاستقامة من الناحية العملية تجد التأكيد عليها في  قوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {، وقوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}، فالذين قالوا ربنا الله أي وحدوه تعالى بلسانهم واعتقدوا ذلك بقلوبهم ، واستقاموا على ذلك أي لم يعدلوا ( يميلوا ) عنه في عملهم ، والاستقامـة هنا منتهى العمل ، فلا خـوف عليهم من العقاب في الآخـرة ، ومن أهــــوال القيامة .
  إذا، فالاستقامة في القرآن شرطها الأساس هو التزام طريق الله تعالى –إقراراً وطاعة.

المصادر:
- محمد بن الحسن الطوسي ، التبيان في تفسير القرآن ، تحقيق احمد حبيب قصير ألعاملي ، المجلد الثالث ، ط1 ، طهران ، مكتب الإعلام الإسلامي ،( 1987).
- سيد قطب ، في ظلال القرآن ،ط15 ، المجلد الثاني ، بيروت ، دار الشروق ، 1988.
- إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي ، تفسير ابن كثير ، المجلد الأول ، بيروت ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، 1986.
- محمد بن المرتضى الملقب بالفيض الكاشاني ، الصافي في تفسير القرآن ، المجلد الأول ، طهران ، المكتبة الإسلامية ، بلا تاريخ نشر.
- محمد جواد مغنية ، التفسير الكاشف ، المجلد الثاني ، ط1 ، بيروت ، دار العلم للملايين ،1968.

No comments :

Post a Comment