الاستقامة وتعلقها بالاعتدال السياسي:
الاستقامة في القرآن شرطها الأساس هو التزام طريق الله
تعالى –إقراراً وطاعة- أما مظاهرها فهي:
أولا : اعتماد العقل السليم والمعرفة واللين والرحمة
والموعظة الحسنة في دعوة الناس إلى هذا الطريق، كما في قوله تعالى: } ادْعُ إِلِى
سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ{، وهذه الآية ترشدنا إلى ما يلي:
-
" إن الدعوة يجب أن تكون للحق خالصة من كل شائبة ، فأي إنسان يدعو إلى
غير الحق فدعوته فساد وضلال ، وأعظم الناس جرما من اتخذ من الدعوة إلى الله والحق
وسيلة لتدعيم جاهـه وكيانه ، كما يفعـل طلاب الزعامة والرئاسة من رجال الدين
والدنيا.
-
أن تكون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، ومن الواضح أن قوام الحكمة العلم
والعقل ، فبالعقل يميز الداعي بين الحق والباطل ، والخير والشر ، وبالشر يعرف
أحوال المخاطبين والطريقة التي ينبغي أن يخاطبهم بها من اللين والشدة ، أما
الموعظة الحسنة فمنها ، بل أحسنها ، أن يخاطب المرشد المخطئ بأسلوب يشعر منه
تلقائيا أنه مخطئ ، ومن الحمق أن يفاجئه بالتأنيب والتوبيخ ، وقديما قيل : التلويح
أبلغ من التصريح ..
-
الجدال بالتي هي أحسن ، وذلك بأن يكون الغرض منه إظهار الحق ، وإقناع
المنكر ، لا مجرد إفحامه والتغلب عليه ".
وخاطبت هذه الآية فئات مختلفة من الناس ،
وكل فئة بأسلوب مختلف في الدعوة إلى طريق الله وهذه الفئات هي :
-
الخاصة ، وتتم دعوتهم بالحكمة القائمة على البرهان والمقالة المحكمة ، أي
بالغـة الحجة.
-
العامة ، وتتم دعوتهم بالموعظة الحسنة القائمة على الخطابات المقنعة والعبر
النافعة ، التي لا يخفى عليهم أن الداعي ينصحهم بها وينفعهم فيها.
-
أهل الجحود والمعاندين ، وتتم دعوتهم بالجدال الحسن القائم على البرهان
والحقائق الثابتة ، كحقيقة البعث بعد الموت على سبيل المثال ، والمعرفة العميقة
لمن يجادل لا أن يكون جدالا خلافيا يجحد الحق ويضعفه ويثير الضغائن ويفرق الناس.
وهذا ما لا يدركه الكثير من الدعاة والساسة في عالمنا الإسلامي في الوقت الحاضر ، عندما
يتوجهون إلى شعوبهم بخطاب واحد لا يأخذ بنظر الاعتبار طبيعة المخاطب ومستوى وعيه
وفهمه ، وكيفية رد فعله على هذا الخطاب ، فتكون نتائج خطاباتهم في أغلب الأحيان
سلبية لا تصب في مصلحة بناء الدولة الإسلامية.
كما يتأكد هذا المنهج القرآني في قوله تعالى من سورة آل
عمران: } فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ
لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ
فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ {.
وصحيح أن المخاطب هنا هو الرسول (صلى الله عليه وآله
وصحبه وسلم) إلا أن الخطاب يشمل كل حاكم ومسؤول يتولى أمور الناس ، لذا نرى أن من
مضامين هذه الآية الكريمة ما يلي:
-
أن يكون الحاكم والمسؤول متصفا بالرحمة غير جاف ولا قاس في قوله وقلبه وما
يصدر من فعله ، فلا يضيق بجهل الناس وضعفهم ونقصهم ، ويحمل همومهم ، ويجدون عنده
دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء.
-
أن تكون سياسته مستندة إلى العفو وطلب المغفرة للناس ، إذ أن الآية نزلت
بعد معركة أحد وما لحق فيها بالرسول (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) والمسلمين من
ألم نتيجة تخلف البعض عن أمره عليه السلام ، لكن على الرغم من ذلك يخاطب سبحانه
وتعالى نبيه الكريم ويدعوه إلى العفو عن المتخلفين وعدم معاقبتهم وطلب المغفرة
لهم.
-
أن يعتمد نظام الحكم سياسة الشورى ونشر منطق المشاورة بين الحاكم والمحكوم
تطييبا للنفوس ، وتأليفا للقلوب ، ورفعا لقدر الناس ، ليكون الحاكم قدوة لشعبه ،
وقائدا لهم إلى دروب الخير ، علما أن ما تحققه الشورى من نتائج ستكون لمصلحة
الجميع ، مما يدل على أن مبدأ الشورى مبدأ أساسي لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه
.
المصادر:
- صايل زكي
الخطايبة، مدخل إلى علم السياسة، ط1، الأردن، دار وائل للنشر والتوزيع، 2010.
- ناجي عبد النور، منهجية البحث السياسي، الأردن، دار اليازوري
العلمية للنشر والتوزيع، 2010.
- سلوى السعيد فراج وريمان أحمد عبد العال، مقدمة في العلوم
السياسية، القاهرة، جامعة قناة السويس، بلا تاريخ نشر.
- باقر شريف القرشي، النظام السياسي في الإسلام، ط4، بيروت، دار
التعارف للمطبوعات، 1987.
-محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي، ط2، بيروت،
المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1999
- جعفر
البناوي، التعايش في المجتمع الإسلامي: دراسة في العلاقات الإنسانية للمجتمع
الواحد، ط1، بيروت، دار الخليج العربي للطباعة والنشر، 1999
- معتز
الخطيب، في نقد القول بالوسطية والاعتدال، مقال منشور على الانترنيت على الموقع
الالكتروني : www.altasamoh.net
- محمد بن
الحسن الطوسي ، التبيان في تفسير القرآن ، تحقيق احمد حبيب قصير ألعاملي ، المجلد
الثالث ، ط1 ، طهران ، مكتب الإعلام الإسلامي ،( 1987).
- سيد قطب ،
في ظلال القرآن ،ط15 ، المجلد الثاني ، بيروت ، دار الشروق ، 1988.
- إسماعيل بن
كثير القرشي الدمشقي ، تفسير ابن كثير ، المجلد الأول ، بيروت ، دار الفكر للطباعة
والنشر والتوزيع ، 1986.
- محمد بن
المرتضى الملقب بالفيض الكاشاني ، الصافي في تفسير القرآن ، المجلد الأول ، طهران
، المكتبة الإسلامية ، بلا تاريخ نشر.
- محمد جواد
مغنية ، التفسير الكاشف ، المجلد الثاني ، ط1 ، بيروت ، دار العلم للملايين ،1968.
No comments :
Post a Comment