Saturday, December 30, 2017

مفهوم الحرية عند المسلمين



مفهوم الحرية عند المسلمين: 
"خص المولى تبارك وتعالى "الإنسان" بالعقل والإدراك والتمييز , وأمر بحفظ حقه في حرية التفكير والتعبير مادام ذلك في حدود الشرع ومصلحة الجماعة , لا يقهر على أمر , ولا يقصر على رأي , ولا يمنع من إبداء الرأي والاجتهاد فيه , لأن هذا قوام :"نموه العقلي" واتساع مداركه وشحذ تفكيره , ومبادئه الإيجابية في بناء حياته الخاصة وفلسفته ونظرته للحياة , وتحقيق طموحاته المستقلة , ومساهمته الفعالة في بناء حياة الجماعة وتطوير نظمها وتراثها الفكري واعلمي والحضاري ,وتمكينها من بلوغ أهدافها المرجوة لخير جميع أفرادها .
ولأن في الحفاظ على حرية "الإنسان" في فكره وتعبيره , صونا "لآدميته" المكرمة من الله تعالى ,ودعما لكيانه المستقل والمتميز عن غيره , وتنمية لشخصيته لتكون قوية متماسكة ,وتعزيزا لاعتداده بذاته وثقته بنفسه , وراحة وسعادة له في حياته , وإعطاء هذه الحياة معاني الكرامة وأسباب الهناء.
والمولى سبحانه وتعالى , وهو يضرب لعباده المثل , وله وحده المثل الأعلى , أقر للإنسان حريته حتى فيما يتعلق بأمور الإيمان والعقيدة والتوحيد ، وهي أسمى الأمور ، وحمله مسؤولية حريته في إيمانه وكفره ، وهذا هو العدل التام ، وأقام عليه الحجة بما أعطاه من حرية قوامها الإرادة والاختيار والعقل ".
 قال تعالى : (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا).
وقال تعالى : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).
وقال عز وجل : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
وقال جل جلاله : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر  ).
ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة ، فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشيّة في البشر، وأقيمت عليها ثروات كثيرة، وكانت أسبابها كثيرة: وهي الأسر في الحروب،  والخطف في الغارات، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهُمْ، والرهائن في الخوف، والتداين. فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر .
       ومفهوم الحرية من المنظور الإسلامي يتحقق من خلال الحقوق  والواجبات باعتبارهما وجهين لعملة واحدة لان الحقوق من دون أن تقيد بالواجبات سيصبح الفرد غير مرتبط بالآخرين وقد يعرف حقوقه ولا يعرف حقوق الآخرين عليه وبذلك يصبح انفراديا في تعامله قاصرا عن أداء واجباته.
       وقد حرص الإسلام على تطبيق مبدأ الحرية في هذه الحدود وبهذه المناهج في مختلف شؤون الحياة. واخذ به في جميع النواحي التي تقتضى كرامة الفرد وان يأخذ به في شؤونها وهي النواحي المدنية والدينية ونواحي التفكير والتعبير، ونواحي السياسة والحكم حتى وصل به في كل النواحي إلى شأن رفيع لم تصل إلى مثله شريعة أخرى من شرائع العالم قديمه وحديثه.
       فالإسلام يرى أن إنسانية الإنسان هي رهن حريته إذ لا يمكن أن تتحقق إنسانيته بدون حريته فان تحكم الآخرين عليه باستعباده بغير صورة شرعية.
 فالحرية في الإسلام لا تعني الفوضى وارتكاب الموبقات والمنكرات باسم الحرية واستباحة محارم الله والانغماس في الشهوات المحرمة فالحرية التي تبيح هذه المحظورات هي فوضى، وتصور خاطئ للحرية، وقد صحح الإسلام هذا التصور الخاطئ وقرر حرية الناس منذ ولادتهم ، وانه لا يجوز استعبادهم كما لا يجوز تقييد حرياتهم، و كل حق لهم، يقابله واجب عليهم ليكون هناك توازن في الحياة والتعايش مع الآخرين ، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله يقول: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسلفها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فآذوهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ، فان تركوهم هلكوا وهلك الناس جميعهم وإن منعوهم نجو ونجى الناس جميعاً) .
       وهكذا حياة الناس على سطح الأرض كركاب السفينة تحمل هذه الأرض البر والفاجر، والصالح والطالح والمحسن والمسيء كالذين يسيئون الآخرين بما فيهم أنبياء الله ورسله بحيث يرسمونهم في صور لا تليق بمقامهم الذي يستحق الاحترام والتقدير والتقديس، فان ترك هؤلاء المسيئين يمرحون ويفعلون ما يحلو لهم وما يشاءون.
دون الأخذ بأيديهم وكفها عن اقتراف الموبقات والآثام لهلك الناس جميعهم نتيجة لاختلال التوازن في مطالب الحياة ، وان اخذ بأيديهم نجو ونجى الناس جميعا وحيوا حياة طيبة، هذا هو توجيه الإسلام للحرية، أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبي الرحمة.
  "وقد عزز الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة وسيرته العطرة , مبدأ "الحرية" سواء في التفكير أم في التعبير أم في إعمال الرأي والاجتهاد في أمور الدين والدنيا , حرصا منه على تكوين الشخصية المستقلة المتماسكة القوية لدى المسلم .
فأثناء الاستعداد لمعركة "بدر الكبرى" والتخطيط لها , قال الصحابي الجليل "الحباب بن المنذر" رضي الله عنه :"يا رسول الله, إن هذا  المكان الذي أنت فيه ليس بمنزل, فانطلق بنا إلى أدنى ماء إلى القوم , فإني عالم بها وبقلبها , بها قليب قد عرفت عذوبة ماءه لا ينزح , ثم نبني عليه حوضا فنشرب ونقاتل . ونغور ما سواه من القلب فنزل جبريل عليه السلام على رسول صلى الله عليه وسلم فقال: "الرأي ما أشار به الحباب " فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك .
ولما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث الصحابي الفقيه "معاذ بن جبل" رضي الله عنه إلى اليمن ,ليعلم الذين دخلوا إلى الإسلام ويفقههم , قال عليه الصلاة والسلام :"كيف تقضي إذا عرض  لك قضاء ؟"قال أقضي بكتاب الله قال "فإن لم تجد في كتاب الله  " قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد برأي ولا آلو.فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ,فقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله" .
 وعن عائشة وعن أنس بن ثابت رضي الله عنهما ,أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أنتم أعلم بأمور دنياكم"  .
عن محارب بن دِثَارٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَجُلٍ : «مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا قَاضِي دِمَشْقَ، قَالَ: وَكَيْفَ تَقْضِي ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ مَا لَيْسَ في كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ مَا لَيْسَ في سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيٍ وَأُؤَامِرُ جُلَسَائِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَحْسَنْتَ ".
المصادر والمراجع:
-الزنتالي ، عبد الحميد الصيد ( 1993 م ): فلسفة التربية الإسلامية في القرآن والسنة ، الدار العربية للكتاب
-بحر العلوم، د. محمد (1421هـ/2000م) : آفاق حضارية للنظرية السياسية في الاسلام (لندن، معهد الدراسات العربية والاسلامية.
-غرايبة، د. رحيل محمد(1421هـ/2000م) : الحقوق والحريات السياسية في الشريعة الإسلامية (عمّان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي والمنار للنشر والتوزيع، الطبعة 1.

No comments :

Post a Comment