Saturday, December 23, 2017

ثقافة الحوار كبديل لثقافة الغلو والتطرف



ثقافة الحوار كبديل لثقافة الغلو والتطرف:
 ثقافة الحوار كبديل لثقافة الغلو والتطرف ، فالاستقامة كركن من أركان الاعتدال السياسي في الإسلام تهدف إلى ظهور مجتمع السلم كنقيض لمجتمع البغي والظلم والعدوان، والمجتمع الأخير من ملامحه الرئيسية الغلو والتطرف والانحراف عن الحق، ذلك الغلو والتطرف الذي جعل من إبليس لعنة الله عليه سيد الغلاة والمتطرفين، فهو في غلوه ذهب إلى معصية الخالق عز وجل بعدم السجود لآدم، وتوعد آدم ونسله بالغواية والانحراف، لكن الله عز وجل على عظمة قدرته لم ينتقم منه بمجرد معصيته، فيضرب بنفسه سبحانه وتعالى مثلاً في التعامل مع الرأي الآخر، عندما حاوره، وسمع منه، وأعطاه ما أراد من تأخير في عقابه، كما في قوله تعالى: } قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ · قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ · قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ · وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ · قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ · قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ · إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ · قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ · إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ · قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ · إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ { .
إن هذا النص القرآني بدلالاته العميقة، يضرب مثلاً رائعاً في الاعتدال مع الرأي المعارض، ويشكل إدانة ربانية لكل الطغاة والمستبدين الذين يمتهنون كرامة شعوبهم بحجج شتى ، ومهما اختلف الفقهاء في تفسير هذا النص القرآني ، فهم لا يختلفون في انه حوار تم بين الخالق سبحانه وتعالى كخير مطلق وبين الشيطان كشر مطلق وفي ذلك عبرة عظيمة للبشر.
وعند تتبع سيرة الأنبياء والمرسلين في النص القرآني، تجد أن منهج الاعتدال السياسي بمظاهره المتقدمة، هو دائماً منهج الأنبياء والمرسلين، بينما يكون الغلو والتطرف الجامح سياسياً منهج أعدائهم ومخالفيهم، ففي قصة موسى عليه السلام وفرعون يقول الله تعالى : } اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى · فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى {. وتفسير الآية الأولى يظهر أن طغى بمعنى تجاوز الحد وتطرف في طغيانه ومعاصيه ، وهذا ما لا يرضاه الله لعباده ، أما القول اللين في الآية الثانية فيشير إلى دعوة فرعون إلى طريق الله على أساس الرجاء والطمع في فلاحه لا على أساس اليأس من ذلك ، وبأسلوب ينطوي على التوقير والاحترام للمخاطب ( بفتح الطاء ) حتى يكون أقرب للاستجابة فلا تأخذه العزة بالإثم وينكر دعوة الحق ، ولكي يوقظ ذلك قلبه فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان.
لكن رد فرعون على هذه الدعوة السلمية الهادئة غير المتطرفة كان بالشكل الآتي: } قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ {، ويستفيض النص القرآني في ذكر مظاهر طغيان فرعون كما في قوله تعالى: } وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ {، وقوله تعالى: } وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ {، وقوله تعالى: }.. فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ · فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ {، ويؤذي فرعون من يؤمن بدعوة الله بأشد أنواع العذاب، كما هو الحال في تعامله مع السحرة الذين استجابوا لطريق الله، إذ يقول سبحانه وتعالى: }قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى{.
  إن فرعون وأمته لا ينفردون في هذا الموقف السياسي المتطرف، بل إن مظاهر التطرف تظهر لدى أمم أخرى انحرفت عن طريق الله وحاربت أنبياء الله، منها: قوم لوط عليه السلام، كما في قوله تعالى: } وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ · قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ {.
والعادي في الآية الأولى نظير الظالم والجائر، أي أنهم خارجون عن الحق ومتجاوزون للحد ، أما كلمة مخرجين في الآية الثانية فهي تهديد للوط عليه السلام بالنفي والأبعاد من وطنه وقومه.
كذلك قوم صالح عليه السلام، كما في قوله تعالى:} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ · وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ · الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ · قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ {.
فالمسرف في الآية الكريمة هو الذي تجاوز الحد بالبعد عن الحق ، فأصبح يفسد في الأرض ولا يصلح ، ويتهم المصلحين من الأنبياء أو غيرهم الذين يريدون أعادته إلى جادة الصواب بأنهم مخبولون أو مجانين.
وقوم نوح عليه السلام، إذ ردوا على نبيهم بالقول: } قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} .
وقوم هود عليه السلام إذ ردوا على نبيهم بالقول: } قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ ·‏ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ · وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ {.
وقوم إبراهيم عليه السلام ، إذ ردوا على نبيهم بالقول : } فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {.
 أن تأكيد النص القرآني على منهج الاعتدال السياسي ورفض الغلو والتطرف يظهر جليا – أيضا - من خلال المدح الضمني لملكة سبأ قبل إيمانها، عندما اعتمدت هذا المنهج سواء في مشورتها لقومها بعد أن وصلها كتاب سليمان عليه السلام وعدم إنفرادها بالرأي دونهم ، وفي ذلك ملاطفة منها لقومها . أو في إرسالها الهدية إلى سليمان عليه السلام لتختبر صدق نبوته من جهة ، وكتعبير عن حسن النية وعدم الانسياق الأعمى وراء ما تتمتع به من منعة وقوة عسكرية من جهة أخرى ، لأنها رأت أن دخول الحكام إلى البلدان عنوة سيفسدها ، ويقود إلى استعباد أهلها ، وقد صدقها النص القرآني عندما انتهى بقوله تعالى:" وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ " ، ويمكن أن يستنبط من هذه القصة القرآنية أحكاما رائعة سواء في علاقة الحاكم بالمحكوم أو في ميدان العلاقات الدولية ، فضلا عن دلالتها التي يستفاد منها في هذا البحث.
  من خلال ما تقدم ، ترى أن الاستقامة بمظاهرها المختلفة كالثبات على الحق واعتماد طريق الله ، واللين والرحمة، والعلم والمعرفة ، والحكمة والموعظة الحسنة ، والعدل وأداء الأمانة ، والعفو والشورى ، والمجتمع الآمن المتعايش بسلام من خلال اعتماد ثقافة الحوار، هي الركائز التي يبنى عليها منهج الاعتدال السياسي في القرآن . بينما الغلو والتطرف، والجمود الفكري، والتعذيب والنفي، والقتل ، والسجن، والتشريد، وتمزيق وحدة المجتمع، واستعباد البشر، وامتهان كرامة الإنسان هو المنهج الذي تقوم عليه الحكومات والمجتمعات المتطرفة التي تنحرف عن طريق الحق.
والاعتدال السياسي بشروطه القرآنية هو الذي أعطى الأمة الإسلامية صفة الوسطية والشهادة ، كركن ثان يبنى عليه اعتدالها السياسي كما في قوله تعالى: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً {، فوسطية الأمة ، وشهادتها نتجت من الخيرية والأفضلية التي منحها لها التزامها بطريق الله تعالى، كما يؤكد ذلك قوله تعالى: } كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ..{.
المصادر:
- صايل زكي الخطايبة، مدخل إلى علم السياسة، ط1، الأردن، دار وائل للنشر والتوزيع، 2010.
- ناجي عبد النور، منهجية البحث السياسي، الأردن، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، 2010.
- سلوى السعيد فراج وريمان أحمد عبد العال، مقدمة في العلوم السياسية، القاهرة، جامعة قناة السويس، بلا تاريخ نشر.
- شريف القرشي، النظام السياسي في الإسلام، ط4، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1987.
-محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي، ط2، بيروت، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1999
- جعفر البناوي، التعايش في المجتمع الإسلامي: دراسة في العلاقات الإنسانية للمجتمع الواحد، ط1، بيروت، دار الخليج العربي للطباعة والنشر، 1999
- معتز الخطيب، في نقد القول بالوسطية والاعتدال، مقال منشور على الانترنيت على الموقع الالكتروني : www.altasamoh.net
- سيد قطب ، في ظلال القرآن ،ط15 ، المجلد الثاني ، بيروت ، دار الشروق ، 1988.
- إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي ، تفسير ابن كثير ، المجلد الأول ، بيروت ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، 1986.

No comments :

Post a Comment